المبحث الثالث

أهم المقامات التي ورد التعبير فيها بطرفي النهار في آي التنزيل

(1) رواه البخاري 2/124ومسلم669.
(2) رواه مسلم 251.
(3) رواه البخاري 2/119 ومسلم 1/460 برقم 275.
(4) رواه مسلم.
(5) أخرجه الترمذي 3092 وقال حسن وابن حبان 310 والحاكم 1/212، 213.

ويجدر بنا بعد أن عرجنا على دلالات التعبير عن طرفي النهار - حقيقة ومجازا وكناية - بمقابلاتها المتعددة في النظم الكريم، وبعد أن وقفنا - ما وسعنا الجهد - على بعض من أسرار تنوع هذه المقابلات ومزايا مجيئها على النحو الذي انصبت فيه، وفاء بحق السياق .. أن نبحر للتعرف على المقامات التي وردت فيها تيك المقابلات طمعا في استجلاء المزيد من دلائل الإعجاز في كتاب الله العزيز، ورجاء الوقوف على بعض أسرار نظمه وبدائع كلمه، ولنبدأ بآخر ما انتهينا إليه وهو:
مقام الإشادة بالصحابة في ملازمة بيوت الله وإعمارها صباح مساء بالذكر والدعاء:
ويسترعي انتباهنا في هذا المقام آيتان وردتا في حق الصحابة الإجلاء عليهم الرضوان، هما قوله سبحانه :


(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (الأنعام/ 52)

وقوله :

(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) (الكهف/28)

أي دائبين على الدعاء في جميع الأوقات سيما ما كان منها في طرفي النهار، ففي الكشاف أنه بعد أن ذكر غير المتقين من المسلمين وأمر بإنذارهم ليتقوا - يعني في قوله :

(وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون) (الأنعام/5) -

أردفهم ذكر المتقين منهم وأمره بتقريبهم وإكرامهم، وأن لا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك، وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم أي عبادته، ويواظبون عليها. والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام(1).

(1) الكشاف 2/21 وأبو السعود 5/218 مجلد 3.وللآيات الواردة في هذا المقام قصة مؤداها أن رءوسا من المشركين قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
لو طردت عنا هؤلاء الأعبد - يعنون فقراء المسلمين وهم عمار وصهيب وبلال وخباب وسلمان وأضرابهم رضوان الله عليهم- وأرواح جبابهم - وكانت عليهم جباب من صوف - جلسنا إليك وحادثناك، فقال عليه الصلاة والسلام :
ما أنا بطارد المؤمنين، فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت، فقال: نعم، طمعا في إيمانهم ...
وفي رواية أحمد والطبراني وابن جرير والبيهقي أنهم قالوا: يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا؟ أنكون نحن تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنك واجعل لنا منك مجلسا تعرف به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا قعودا مع هؤلاء فنزل جبريل بها(1).

(1) ينظر الآلوسي 7/231مجلد ه.

والحق أن آخر هذا الكلام - الذي أراد الزمخشري وغيره من أهل التأويل الربط بينه وبين الآية الخامسة من سورة الأنعام - لا يستقيم مع أوله ولا يتمشى مع سياق الآيات، إذ أنى لقوم أن يصدر عنهم مثل هذه الأقوال أن يجعلوا ممن (يخافون أن يحشروا إلى ربهم)، أو يكونوا من المسلمين على ما أقر به الزمخشري، أو يرجى منهم على سبيل التحقيق ما ذكره سبحانه في قوله (لعلهم يتقون).. اللهم إلا أن يكون السبب في نزولها هو ما اقترحه بعض الصحابة على رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - تعقيبا على ما صدر من أولئك المنكرين، نحو ما روي من أن عمر رضي الله عنه قال: لو فعلت حتى تنظر إلى ما يصيرون، قال: فاكتب بذلك كتابا فدعا بصحيفة وبعلي رضي الله عنه ليكتب فنزلت، فرمى بالصحيفة واعتذر عمر عن مقالته"(1) ... فهذا عندي افضل مما قاله الزمخشري ومما تكلف له أبو السعود الذي ذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - "أمر بتوجيه الإنذار إلى من يتوقع من أهل الكفر التأثر في الجملة، وهم المجوزون منهم للحشر سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب وبعض المشركين أو مترددين، أما المنكرون له فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم ا.هـ(2)
قال سلمان وخباب: فينا- أي آية الأنعام – نزلت، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقعد معنا ويدنو منا حتى تمس ركبتنا ركبته، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت:


(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) (الكهف/28).

(1) الكشاف2/22.
(2) تفسير أبو السعود3/137مجلد 2بتصرف.

وفي التعبير عمن نزلت في حقهم هذه الآيات في الموضعين بالموصول، الإيماء إلى تعليل الأمر بملازمتهم، وبما في حيز الصلة الداعية إلى إدامة الصحبة، أي لأنهم أحرياء بذلك لأجل إقبالهم على الله فهم الأجدر بالمقارنة والمصاحبة(1)، وهم وإن كانوا عند أهل الكفر والنفاق مؤخرين فهم عند الملك الأعلى مقدمون، وقوله : (يريدون وجهه) فيهما، في موضع الحال من ضمير يدعون أي يدعونه تعالى مخلصين له الدين، والوجه في تقييده به تأكيد عليته للنهي في آية الأنعام (ولا تطرد)، وللأمر في آية الكهف (واصبر نفسك)، والإعلام بأن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام المضاد للطرد والحاض على الصبر، وفي التنوع بمجيئ العلة تارة بالنهي وتارة أخرى بالأمر، تأكيد على ملازمة من في حقهم نزلت هذه الآيات ومواصلتهم من قبل النبي بجميع الأوجه، وعليه فلا وجه لما ادعاه أبو حيان في البحر من أن آية الكهف أبلغ من التي في الأنعام.
ولا يسيئن أحد الظن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن طاوع من أشار عليه بطردهم بقوله: نعم، وأن في طردهم ظلم، لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما عين لجلوسهم وقتا معينا سوى الوقت الذي كان يحضر فيه أكابر قريش، وأن غرضه من الجلوس مع أولئك الأكابر هو إدخالهم في الإسلام حتى لا يفوتهم خير الدين والدنيا والآخرة فكان ترجيح هذا الجانب أولى، وأقصى ما يقال ان هذا كان اجتهادا منه - صلى الله عليه وسلم - والخطأ في الاجتهاد مغفور والمخطئ فيه على أي حال مأجور.
وتبقى دلالة السياق على إفادة التعبير بالغداة والعشي للديمومة، سيما مع ما سبق من أن العرب تستعمل هذين اللفظين في التكنية عن هذا المعنى كما في قولهم: (إني آتيه بالغدايا والعشايا)، ويريدون بذلك الاستدامة في فعل المجئ إليه.
مقام التذرع بالصبر والتسلية بأحوال السابقين:

(1) ينظر السابق 5/218مجلد3 والتحرير15/305 مجلد 7.