الديانة السومرية

تجسد تقاليد الكتابة واللغة أفكاراً وصوراً تجعل الناس يرون العالم بأساليب معينة، فتفتح لهم طرقاً وتحد طرقاً أخرى
أي أن لها وزنها التاريخي.
تعطينا ملحمة جلجامش بعض المعلومات عن آلهة بلاد الرافدين في زمن باكر، وكانت أهم الأفكار التي بقيت حية بفضل اللغة السومرية أفكاراً دينية على الأرجح في حوالي عام 2250 ق.م كان قد ظهر مجمع من الآلهة الفردية تجسد إلى حد ما عناصر الطبيعة وقواها، وسوف تبقى هذه الآلهة هي العمود الفقري لديانة بلاد الرافدين طوال آلاف السنين، وبداية اللاهوت.
كان للمدن في الأصل آلهتها الخاصة بها، التي كانت تشكل تسلسلاً هرمياً فضفاضاً يعكس النظرة إلى المجتمع البشري ويساهم في صياغتها أيضاً، وقد أُعطي لكل منها نشاط أو دور خاص، فكان هناك إله للهواء، وإله للماء، وإله للمحراث وآلهة للحب والتكاثر، ولكن للحرب أيضاً وعلى قمة هذا الهرم كان يتربع ثالوث مؤلف من ثلاثة آلهة مذكرة كبرى هي: أب الآلهة، و”السيد الريح” الذي لا يمكن فعل شيء من دونه، وإله للحكمة والمياه العذبة التي تعني الحياة نفسها بالنسبة إلى سومر.
وإن هذه الصورة لدليل على نظرة ما إلى عالم ما فوق الطبيعة لا مثيل لها في تعقيدها وغناها في ذلك الزمان الباكر.
ثم أن هناك ملاحظة هامة أخرى هي أن المعابد كانت تزداد حجماً وفخامة بمرور القرون ومن أسباب ذلك أنهم كانوا يبنون المعابد الجديدة على بقايا القديمة منها، وكانوا يقدمون الذبائح لضمان جودة المحاصيل، وبلغنا أن أحدهم قد بني بأرز مجلوب من لبنان ونحاس من الأناضول.
لن تجد في ذلك الزمان مجتمعاً أعطى الدين مثل هذه المكانة البارزة، أو كرس مثل هذا القدر من موارده الجماعية لدعمه، وربما كان السبب أنه لا يوجد مجتمع قديم أعطى الناس الشعور بمثل هذا الاعتماد المطلق على مشيئة الآلهة.
إذ يبدو أن بلاد الرافدين السفلى كانت في الأزمنة القديمة أرضاً مسطحة رتيبة مكونة من سهول الطين والمستنقعات والماء، فلم تكن ثمة جبال تسكن فيها الآلهة على الأرض مع البشر، بل السماء الخاوية في الأعلى، وشمس الصيف التي لا ترحم، والرياح العاتية، والفيضانات التي لا تقاوم، وهجمات القحط المدمرة التي لا يملكون ردها إلا بأوهى الأسباب.

وكانت الآلهة تعيش في قوى الطبيعة هذه، ويمكن التقرب إليها في الأماكن العالية الوحيدة المشرفة على السهول، أي في الأبراج والزِّقُّرات المبنية بالقرميد، والتي تجد انعكاساً ضعيفاً لها في برج بابل في الكتاب المقدس، فليس من الغريب إذاً أن يكون السومريون قد اعتبروا أنفسهم شعباً خلق ليكدح من أجل الآلهة.


آلهة من آلهات سومر



كانت الآلهة تصويراً فكرياً لمحاولات السيطرة على الطبيعة، ولو كان من المستحيل على أهل بلاد الرافدين أن يعبروا عن ذلك بهذه العبارة، أي أنها كانت محاولات لمقاومة كوارث الفيضانات والعواصف الرملية المفاجئة، وضمان استمرار دورة الفصول عن طريق تكرار احتفال الربيع الكبير، حينما تزوج الآلهة من جديد ويعاد تمثيل دراما الخلق، فيضمنون عندئذٍ استمرار العالم لسنة أخرى؛ وما كان لديهم من خيار آخر.
في زمن لاحق صار الناس يبغون من الدين أن يساعدهم على مواجهة رعب الموت الذي لامفر منه، ويبدو أن السومريين والذين ورثوا عنهم أفكارهم الدينية كانوا يرون العالم الآخر مكاناً حزيناً كئيباً، وهنا تكمن جذور فكرة جهنم التي ستظهر في زمن لاحق. ولكننا نعلم أيضاً أن ملكاً وملكة سومريين من منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد قد لحقت بهما حاشيتهما إلى القبر حيث دفنوا معهما، ربما بعد تناول دواء ما، فلعلهم كانوا يؤمنون بأن الموتى يذهبون إلى مكان تفيدهم فيه الحاشية العظيمة والمجوهرات البديعة.
أما من الناحية السياسية للديانة السومرية، فقد كانت الأرض كلها جوهرياً ملكاً للآلهة التي كان الملك وكيلاً عنها والأرجح أنه كان ملكاً كاهناً مثلما كان قائداً محارباً، ومن حوله كانت طبقة الكهنة التي تقوم برعاية مهارات ومعارف خاصة، ومن هذه الناحية أيضاً كانت سومر منشأ تقليد آخر، هو تقليد عرّافي الشرق ومتنبئيه وحكمائه، وكان هؤلاء مسؤولين عن أول جهاز تعليم منظم ومبني على الاستذكار والنسخ.