+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 10 من 16

الموضوع: المسلمون الأوائل

العرض المتطور

  1. #1

    • كريم يحيى
    • Guest

    افتراضي أم ورقة بنت عبد لله الأنصارية

    بشرها الرسول بالشهادة وهي في بيتها رضي الله عنها....



    اسمها وكنيتها:


    هي أم ورقة بنت عبد لله بن الحارث بن عويمر بن نوفل الأنصارية. وقيل: أم ورقه بنت نوفل،
    وهي مشهورة بكنيتها. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يزورها ويسميها الشهيدة.


    فضلـــــها:

    أم ورقه الأنصارية واحدة من الأنصاريات اللائي سطرن أروع الصفحات في تاريخ الإسلام ، وقد أسلمت مع السابقات .
    وكانت من فضليات نساء عصرها، ومن كرائم نساء المسلمين . نشأت على حب كتاب الله تعالى وراحت تقرأ آياته أناء الليل وأطراف النهار حتى غدت إحدى العابدات الفاضلات.
    فجمعت القرآن، وكانت تتدبر معانيه، وتتقن فهمه وحفظه، كما كانت قارئه مجيدة للقرآن ، واشتهرت بكثرة الصلاة .
    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدر أم ورقة ويعرف مكانتها ويكبر حفظها وإتقانها ، ويأمر بأداء الصلاة في بيتها.


    مشاركتها في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم


    وأما عن حبها رضي الله عنها للجهاد والشهادة في سبيل الله فهاهي تحدثنا عن ذلك فتقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما غزا بدراً قلت له : يا رسول الله ، ائذن لي في الغزو معك ،
    أمرض مرضاكم لعل الله أأن يرزقني الشهادة . قال : " قري في بيتك فإن الله تعالى يرزقك الشهادة " .
    وعادت الصحابية العابدة أم ورقة إلى بيتها سامعة مطيعة أمر النبي صلى الله عليه وسلم لآن طاعته واجبة .
    وغدت أم ورقة رضي الله عنها تعرف بهذا الاسم المعطار " الشهيدة " بسبب قوله صلى الله عليه وسلم : " قري في بيتك فإن الله تعالى يرزقك الشهادة " ،
    ولما ذكره ابن الأثير في أسد الغابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد زيارتها اصطحب معه ثلة من أصحابه الكرام ، وقال لهم " انطلقوا بنا نزور الشهيدة " .

    وظلت الصحابية الجليلة أم ورقة رضي الله عنها تحافظ على شعائر الله تعالى طوال حياة رسول الله ،
    صلى الله عليه وسلم، وكانت تنتظر ما بشرها الرسول، صلى الله عليه وسلم. وانتقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم
    إلى الرفيق الأعلى وهو راض عن أم ورقة ، ثم جاء عهد أبي بكر، رضي الله عنه، فتابعت حياه العبادة والتقوى على الصورة التي كانت عليها من قبل.


    تحقق بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لها بالشهادة :


    لقد بشرها النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة. عندما طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشترك في الجهاد وتداوي جراح وأمراض المرضى .
    فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مبشرا :" إن الله يهديك الشهادة وقري في بيتك فانك شهيدة ".


    وفاتها و(استشهادها) رضي الله عنها:

    في عهد عمر كان رضي الله عنه بتفقدها ويزورها اقتداء بنيه صلى الله عليه وسلم. وقد كانت أم ورقة تملك غلاما وجارية ،
    كانت قد وعدتهما بالعتق بعد موتهما ، فسولت لهما نفساهما أن يقتلا أم ورقة ، وذات ليله قاما إليها فغمياها وقتلاها ،
    وهربا فلما أصبح عمر رضي الله عنه قال: والله ما سمعت قراءة خالتي أم ورقة البارحة فدخل الدار فلم ير شيئا ،
    فدخل البيت فإذا هي ملفوفة في قطيفة في جانب البيت فقال: صدق الله ورسوله ، ثم صعد المنبر فذكر الخبر،
    وقال: علي بهما ، فأتى بهما فكانا أول مصلوبين في المدينة . 3 فرحم الله تعالى الصحابية الأنصارية والشهيدة العابدة أم ورقة ورضي الله عنها وأرضاها .



    كلمات البحث

    راعي عام زراعه عامة .انتاج حيواني .صور زراعية .الصور الزراعية .هندسة زراعية.ارانب. ارنب.الارنب.خضر.خضار.خضر مكشوفة.محصول.محاصيل.المحاصيل.ابحاث زراعية.بحث زراعي.بحث مترجم.ترجمة بحثية.نباتات طبية.نباتات عطرية.تنسيق حدائق.ازهار .شتلات.افات.افة.الافة.حشرات.حشرة.افة حشريا.نيماتودا.الديدان الثعبانية.قمح.القمح.الشعير.الارز.ارز.اراضي طينية. اراضي رملية.برامج تسميد.استشارات زراعية .برامج مكافحة.امراض نبات .الامراض النباتية.مرض نباتي.فطريات .بكتيريا.كيمياء زراعية .الكيمياء الزراعيه.تغذية .التغذية.خضر مكشوفة.صوب زراعية.السمك.زراعه السمك.مشتل سمكي. زراعة الفيوم.مؤتمرات زراعية.مناقشات زراعية.التقنية.براتمج نت.برامج جوال.كوسة, خيار,طماطم.بندورة.موز.بطيخ؟خيار.صوب.عنكبوت.ديدان.بياض دقيقي.بياض زغبي.فطريا



  2. #2

    • كريم يحيى
    • Guest

    افتراضي بلال بن رباح - الساخر من الأهوال

    كان عمر بن الخطاب، اذا ذكر أبو بكر قال:

    " أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا"..

    يعني بلالا رضي الله عنه..

    وان رجلا يلقبه عمر بسيدنا هو رجل عظيم ومحظوظ..

    لكن هذا الرجل الشديد السمرة، النحيف الناحل، المفرط الطول الكث الشعر، الخفيف العارضين، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه اليه، وتغدق عليه، الا ويحني رأسه ويغض طرفه، ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل:

    "انما أنا حبشي.. كنت بالأمس عبدا"..!!

    فمن هذا الحبشي الذي كان بالأمس عبدا..!!

    انه "بلال بن رباح" مؤذن الاسلام، ومزعج الأصنام..
    انه احدى معجزات الايمان والصدق.

    احدى معجزات الاسلام العظيم..

    في كل عشرة مسلمين. منذ بدأ الاسلام الى اليوم، والى ما شاء الله سنلتقي بسبعة على الأقل يعرفون بلالا..

    أي أن هناك مئات الملايين من البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا، وحفظوا اسمه، وعرفوا دوره. تماما كما عرفوا أعظم خليفتين في الاسلام: أبي بكر وعمر...!!

    وانك لتسأل الطفل الذي لا يزال يحبو في سنوات دراسته الأولى في مصر، أ، باكستان، أ، الصين..

    وفي الأمريكيتين، وأوروبا وروسيا..

    وفي العراق ، وسوريا، وايران والسودان..

    في تونس والمغرب والجزائر..

    في أعماق أفريقيا، وفوق هضاب آسيا..

    في كل يقعة من الأرض يقتنها مسلمون، تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم: من بلال يا غلام؟

    فيجيبك: انه مؤذن الرسول.. وانه العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة المستعرّة ليردّه عن دينه، فيقول:

    "أحد.. أحد.."



    وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الاسلام بلالا.. فاعلم أن بلال هذا، لم يكن قبل الاسلام أكثر من عبد رقيق، يرعى ابل سيّده على حفنات من التمر، حتى يطو به الموت، ويطوّح به الى أعماق النسيان..

    لكن صدق ايمانه، وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته، وفي تاريخه مكانا عليّا في الاسلام بين العظماء والشرفاء والكرماء...

    ان كثيرا من عليّة البشر، وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم، لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلال العبد الحبشي..!!

    بل ان كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلال..

    ان سواد بشرته، وتواضع حسبه ونسبه، وهوانه على الانس كعبد رقيق، لم يحرمه حين آثر الاسلام دينا، من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه ويقينه، وطهره، وتفانيه..



    ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب، الا حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير مظانها..

    فلقد كان الناس يظنون أن عبدا مثل بلال، ينتمي الى أصول غريبة.. ليس له أهل، ولا حول، ولا يملك من حياته شيئا، فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله.. يروح ويغدو وسط شويهات سيده وابله وماشيته..

    كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن، لا يمكن أن يقدر على شيء ولا أن يكون شيئا..

    ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا، فيقدر على ايمان، هيهات أن يقدر على مثله سواه.. ثم يكون أول مؤذن للرسول والاسلام العمل الذي كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول..!!

    أجل.. بلال بن رباح!

    أيّة بطولة.. وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح..؟!




    **




    انه حبشي من أمة السود... جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة، حيث كانت أمه احدى امائهم وجواريهم..

    كان يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه، ولا أمل له في غده..!!

    ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه، حين أخذ الانس في مكة يتناقلونها، وحين كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم، سيما "أمية بن خلف" أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها..

    لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا، وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا، وغمّا وشرا..



    وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون، الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها.. كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته..!!

    أجل انه ليسمعهم يعجبون، ويحارون، في هذا الذي جاء به محمد..!!

    ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد يوما كاذبا. ولا ساحرا..ولا مجنونا.. وان ام يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله، حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون الى دينه..!!

    سمعهم يتحدّثون عن أمانته..

    عن وفائه..

    عن رجولته وخلقه..

    عن نزاهته ورجاحة عقله..

    وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديّ وعداوته، تلك هي: ولاؤهم لدين آبائهم أولا. والخوف على مجد قريش ثانيا، ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني، كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها، ثم الحقد على بني هاشم، أن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول...!




    **




    وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله، ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه، فيذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلم..

    ولا يلبث خبر اسلامه أن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في اسلام عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار..

    عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد..؟!

    ويقول أميّة لنفسه: ومع هذا فلا بأس.. ان شمس هذا اليوم لن تغرب الا ويغرب معها اسلام هذا العبد الآبق..!!

    ولكن الشمس لم تغرب قط باسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها، وحماة الوثنية فيها...!




    **




    أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للاسلام وحده، وان كان الاسلام أحق به، ولكنه شرف للانسانية جميعا..

    لقد صمد لأقسى الوان التعذيب صمود البرار العظام.

    ولكأنما جعله الله مثلا على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من عظمة الروح اذا وجدت ايمانها، واعتصمت بباريها، وتشبثت بحقها..

    لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه، وفي كل مان، للذين على دينه وعلى كل دين.. درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا، ولا بملئها عذابا..

    لقد وضع عريانا فوق الجمر، على أن يزيغ عن دينه، أو يزيف اقتناعه فأبى..



    لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام، والاسلام، من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير، والدفاع عن حريته وسيادته..

    لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها الماتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال، ويلقون به فوق جسده وصدره..

    ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله، على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره..



    ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه، ويشتري بها حياته نفسه، دون أن يفقد ايمانه، ويتخلى عن اقتناعه..

    حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال أن يقولها..!

    نعم لقد رفض أن يقولها، وصار يردد مكانها نشيده الخالد:"أحد أحد"

    يقولون له: قل كما نقول..

    فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية:

    "ان لساني لا يحسنه"..!!

    ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره، حتى اذا حان الأصيل أقاموه، وجعلوا في عنقه حبلا، ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها. وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس:" أحد أحد".



    وكأني اذا جنّ عليهم الليل يساومونه:

    غدا قل كلمات خير في آلهتنا، قل ربي اللات والعزى، لنذرك وشأتك، فقد تعبنا من تعذيبك، حتى لكأننا نحن المعذبون!

    فيهز رأسه ويقول:" أحد.. أحد..".

    ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا وغيظا، ويصيح: أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء..؟واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا.

    ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس:

    "أحد.. أحد.."

    ويعود للحديث والمساومة، من وكل اليه تمثيل دور المشفق عليه، فيقول:

    خل عنك يا أميّة.. واللات لن يعذب بعد اليوم، ان بلالا منا أمه جاريتنا، وانه لن يرضى أن يجعلنا باسلامه حديث قريش وسخريّتها..

    ويحدّق بلال في الوجوه الكاذبة الماكرة، ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر، ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا:

    "أحد.. أحد.."

    وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة، ويؤخذ بلال الى الرمضاء، وهو صابر محتسب، صامد ثابت.

    ويذهب اليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه، ويصيح بهم:

    (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)؟؟

    ثم يصيح في أميّة بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا..

    وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة..



    لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره اذ كان اليأس من تطويع لال قد بلغ في في نفوسهم أشده، ولأنهم كانوا من التجار، فقد أردكوا أن بيعه أربح لهم من موته..

    باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره، وأخذ بلال مكانه بين الرجال الأحرار...



    وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به الى الحرية قال له أمية:

    خذه، فواللات والعزى، لو أبيت الا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..

    وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا بألا يجيبه..

    ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له، وندّا،أجاب أمية قائلا:

    والله لو أبيتم أنتم الا مائة أوقية لدفعتها..!!



    وانطلق بصاحبه الى رسول الله يبشره بتحريره.. وكان عيدا عظيما!

    وبعد هجرة الرسول والمسلمين الى المدينة، واستقرارهم بها، يشرّع الرسول للصلاة أذانها..

    فمن يكون المؤذن للصلاة خمس مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته..؟

    انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: "الله أحد..أحد".

    لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للاسلام.

    وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ الأفئدة ايمانا، والأسماع روعة وهو ينادى:

    الله أكبر.. الله أكبر

    الله أكبر .. الله أكبر

    أشهد أن لااله الا الله

    أشهد أن لا اله الا الله

    أشهد أن محمدا رسول الله

    أشهد أن محمدا رسول الله

    حي على الصلاة

    حي على الصلاة

    حي على الفلاح

    حي على الفلاح

    الله أكبر.. الله أكبر

    لااله الا الله...



    ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم الى المدينة غازيا..

    وتدور الحرب عنيفة قاسية ضارية..وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الاسلام، غزوة بدر.. تلك الغزوة التي أمر الرسول عليه السلام أن يكون شعارها: "أحد..أحد".




    **




    في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ أكبادها، وخرج أشرافها جميعا لمصارعهم..!!

    ولقد همّ بالنكوص عن الخروج "أمية بن خلف" .. هذا الذي كان سيدا لبلال، والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة..



    همّ بالنكوص لولا أن ذهب اليه صديقه "عقبة بن أبي معيط" حين علم عن نبأ تخاذله وتقاعسه، حاملا في يمينه مجمرة حتى اذا واجهه وهو جالس وسط قومه، ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي، استجمر بهبذ، فانما أنت من النساء..!!!

    وصاح به أمية قائلا: قبحك الله، وقبّح ما جئت به..

    ثم لم يجد بدّا من الخروج مع الغزاة فخرج..

    أيّة أسرار للقدر، يطويها وينشرها..؟

    لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر مشجع لأمية على تعذيب بلال، وغير بلال من المسلمين المستضعفين..

    واليوم هو نفسه الذي يغريه بالخروج الى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه..!!

    كما سيكون فيها مصرع عقبة أيضا!

    لقد كان أمية من القاعدين عن الحرب.. ولولا تشهير عقبة به على هذا النحو الذي رأيناه لما خرج..!!

    ولكن الله بالغ أمره، فليخرج أمية فان بينه وبين عبد من عباد الله حسابا قديما، جاء أوان تصفيته، فالديّان لا يموت، وكما تدينون تدانون..!!



    وان القدر ليحلو له أن يسخر بالجبارين.. فعقبة الذي كان أمية يصغي لتحريضه، ويسارع اى هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء، هو نفسه الذب سيقود أميّة الى مصرعه..

    وبيد من..؟

    بيد بلال نفسه.. وبلال وحده!!

    نفس اليد التي طوّقها أميّة بالسلاسل، وأوجع صاحبها ضربا، وعذابا..

    مع هذه اليد ذاتها، هي اليوم، وفي غزوة بدر، على موعد أجاد القدر توقيته، مع جلاد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا وعدوا..

    ولقد حدث هذا تماما..



    وحين بدأ القتال بين الفريقين، وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين بشعارهم:" أحد.. أحد" انخلع قلب أمية، وجاءه النذير..

    ان الكلمة التي كان يرددها بالأمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم شعار دين بأسره وشعار الأمة الجديدة كلها..!!

    "أحد..أحد"؟؟!!

    أهكذا..؟ وبهذه السرعة.. وهذا النمو العظيم..؟؟




    **




    وتلاحمت السيوف وحمي القتال..

    وبينما المعركة تقترب من نهايتها، لمح أمية بن خلف" عبد الرحمن بن عوف" صاحب رسول الله، فاحتمى به، وطلب اليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته..

    وقبل عبد الرحمن عرضه وأجاره، ثم سار به وسط العمعمة الى مكان السرى.

    وفي الطريق لمح بلال فصاح قائلا:

    "رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت ان نجا".

    ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي لطالما أثقله الغرور والكبر، فصاح به عبد الرحمن بن عوف:

    "أي بلال.. انه أسيري".

    أسير والحرب مشبوبة دائرة..؟

    أسير وسيفه يقطر دما مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين..؟

    لا.. ذلك في رأي بلال ضحك بالعقول وسخرية.. ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه الكفاية..

    سخر حتى لم يترك من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم، وهذا المأزق، وهذا المصير..!!

    ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن عوف، فصاح بأعلى صوته في المسلمين:

    "يا أنصار الله.. رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت ان نجا"...!

    وأقبلت كوكبة من المسلمين تقطر سيوفهم المنايا، وأحاطت بأمية وابنه ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئا.. بل لم يستطع أن يحمي أذراعه التي بددها الزحتم.

    وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة، ثم هرول عنه مسرعا وصوته النديّ يصيح:

    "أحد.. أحد.."




    **




    لا أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا المقام..

    فلو أن اللقاء بين بلال وأمية تمّ في ظروف أخرى، لجازنا أن نسال بلالا حق التسامح، وما كان لرجل في مثل ايمانه وتقاه أن يبخل به.

    لكن اللقاء الذي تم بينهما، كان في حرب، جاءها كل فريق ليفني غريمه..



    السيوف تتوهج.. والقتلى يسقطون.. والمنايا تتواثب، ثم يبصر بلال أمية الذي لم يترك في جسده موضع أنملة الا ويحمل آثار تعذيب.

    وأين يبصره وكيف..؟

    يبصره في ساحة الحرب والقتال يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين، ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ لطوّح به..

    في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها، لا يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل بلالا: لماذا لم يصفح الصفح الجميل..؟؟




    **




    وتمضي الأيام وتفتح مكة..

    ويدخلها الرسول شاكرا مكبرا على رأس عشرة آلاف من المسلمين..

    ويتوجه الى الكعبة رأسا.. هذا المكان المقدس الذي زحمته قريش بعدد أيام السنة من الأصنام..!!

    لقد جاء الحق وزهق الباطل..

    ومن اليوم لا عزى.. ولا لات.. ولا هبل.. لن يجني الانسان بعد اليوم هامته لحجر، ولا وثن.. ولن يعبد الناس ملء ضمائرهم الا الله الي ليس كمثله شيء، الواحد الأحد، الكبير المتعال..

    ويدخل الرسول الكعبة، مصطحبا معه بلال..!

    ولا يكاد يدخلها حتى يواجه تمثالا منحوتا، يمثل ابراهيم عليه السلام وهو يستقسم بالأزلام، فيغضب الرسول ويقول:

    "قاتلهم الله..

    ما كان شيخنا يستقسم بالأزلام.. ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين".



    ويأمر بلال أن يعلو ظهر المسجد، ويؤذن.

    ويؤذن بلال.. فيالروعة الزمان، واملكان، والمناسبة..!!

    كفت الحياة في مكة عن الحركة، ووقفت الألوف المسلمة كالنسمة الساكنة، تردد في خشوع وهمس كلمات الآذان ورء بلال.



    والمشركون في بيوتهم لا يكادون يصدقون:

    أهذا هو محمد وفقراؤه الذين أخرجوا بالأمس من هذا الديار..؟؟

    أهذا هو حقا، ومعه عشرة آلاف من المؤمنين..؟؟

    أهذا هو حقا الذي قاتلناه، وطاردنبه، وقتلنا أحب الناس اليه..؟

    أهذا هو حقا الذي كان يخاطبنا من لحظات ورقابنا بين يديه، ويقول لنا:

    "اذهبوا فأنتم الطلقاء"..!!



    ولكن ثلاثة من أشراف قريش، كانوا جلوسا بفناء الكعبة، وكأنما يلفحهم مشهد بلال وهو يدوس أصنامهم بقدميه، ويرسل من فوق ركامها المهيل صوته بالأذان المنتشر في آفاق مكة كلها كعبير الربيع..

    أما هؤلاء الثلاثة فهم، أبوسفيان بن حرب، وكان قد أسلم منذ ساعات، وعتّاب بن أسيد، والحارث بن هشام، وكانا لم يسلما بعد.



    قال عتاب وعينه على بلال وهو يصدح بأذانه:

    لقد أكرم الله اسيدا، ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث:

    أما والله لو أعلم أن محمدا محق لاتبعته..!!

    وعقب أبو سفيان الداهية على حديثهما قائلا:

    اني لا أقول شيئا، فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى!! وحين غادر النبي الكعبة رآهم، وقرأ وجوههم في لحظة، قال وعيناه تتألقان بنور الله، وفرحة النصر:

    قد علمت الذي قلتم..!!!

    ومضى يحدثهم بما قالوا..

    فصاح الحارث وعتاب:

    نشهد أنك رسول الله، والله ما سمعنا أحد فنقول أخبرك..!!

    واستقبلا بلال بقلوب جديدة..في أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب الرسول أول دخول مكة:

    " يامعشر قريش..

    ان الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء..

    الناس من آدم وآدم من تراب"..




    **




    وعاش بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشهد معه المشاهد كلها، يؤذن للصلاة، ويحيي ويحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات الى النور، ومن الرق الى الحريّة..

    وعلا شأن الاسلام، وعلا معه شأن المسلمين، وكان بلال يزداد كل يوم قربا من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصفه بأنه:" رجل من أهل الجنة"..

    لكن بلالا بقي كما هو كريما متواضعا، لا يرى نفسه الا أنه:" الحبشي الذي كان بالأمس عبدا"..!!





    ذهب يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما:

    "أنا بلال، هذا أخي عبدان من الحبشة.. كنا ضالين فهدانا الله.. ومنا عبدين فأعتقنا الله.. ان تزوّجونا فالحمد لله.. وان تمنعونا فالله أكبر.."!!




    **




    وذهب الرسول الى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا، ونهض بأمر المسلمين من بعده خليفته أبو بكر الصديق..

    وذهب بلال الى خليفة رسول الله يقول له:

    " يا خليفة رسول الله..

    اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفضل عمل لبمؤمن الجهاد في سبيل الله"..

    فقال له أبو بكر: فما تشاء يا بلال..؟

    قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتىأموت..

    قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟

    قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع، اني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله.

    قال أبو بكر: بل ابق وأذن لنا يا بلال..

    قال بلال: ان كنت أعتقتني لأكون لك فليكن لك ما تريد. وان كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له..

    قالأبو بكر: بل أعتقتك لله يا بلال..

    ويختلف الرواة، فيروي بعضهم أنه سافر الى الشام حيث بقي فيها مجاهدا مرابطا.

    ويروي بعضهم الآخر، أنه قبل رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة، فلما قبض وولي عمر الخلافة استأذنه وخرج الى الشام.



    على أية حال، فقد نذر بلال بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور الاسلام، مصمما أن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يحبانه.



    ولم يعد يصدح بالأذان بصوته الشجي الحفيّ المهيب، ذلك أنه لم ينطق في أذانه "أشهد أن محمدا رسول الله" حتى تجيش به الذمؤيات فيختفي صوته تحت وقع أساه، وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته.

    وكان آخر أذان له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون اليه أن يحمل بلالا على أن يؤذن لهم صلاة واحدة.

    ودعا أمير المؤمنين بلال، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها.

    وصعد بلال وأذن.. فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن له.. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا.. وكان عمر أشدهم بكاء..!!




    **




    ومات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد.



    وتحت ثرى دمشق يثوي اليوم رفات رجل من أعظم رجال البشر صلابة في الوقوف الى جانب العقيدة والاقتناع...

  3. #3

    • كريم يحيى
    • Guest

    افتراضي أبوالدرداء - أيّ حكيم كان

    بينما كانت جيوش الاسلام تضرب في مناكب الأرض.. هادر ظافرة.. كان يقيم بالمدينة فيلسوف عجيب.. وحكيم تتفجر الحكمة من جوانبه في كلمات تناهت نضرة وبهاء...وكان لا يفتأ يقول لمن حوله:

    " ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند باريكم، وأنماها في درجاتكم، وخير من أن تغزو عدوّكم، فترضبوا رقابهم ويضربوا رقابكم، وخير من الدراهم والدنانير".؟؟
    وتشرئب أعناق الذين ينصتون له.. ويسارعون بسؤاله:

    " أي شيء هو.. يا أبا الدرداء"..؟؟

    ويستأنف أبو الدرداء حديثه فيقول ووجهه يتألق تحت أضوء الايمان والحكمة:

    " ذكر الله...

    ولذكر الله أكبر"..




    **




    لم يكن هذا الحكيم العجيب يبشر بفلسفة انعزالية ولم يكن بكلماته هذه يبشر بالسلبية، ولا بالانسحاب من تبعات الدين الجديد.. تلك التبعات التي يأخذ الجهاد مكان الصدارة منها...

    أجل.. ما كان أبو الدرداء ذلك الرجل، وهو الذي حمل سيفه مجاهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم، حتى جاء نصر الله والفتح..

    بيد أنه كان من ذلك الطراز الذي يجد نفسه في وجودها الممتلئ الحيّ، كلما خلا الى التأمل، وأوى الى محراب الحكمة، ونذر حياته لنشدان الحقيقة واليقين..؟؟

    ولقد كان حكيم تلك الأيام العظيمة أبو الدرداء رضي الله عنه انسانا يتملكه شوق عارم الى رؤية الحقيقة واللقاء بها..



    واذ قد آمن بالله وبرسوله ايمانا وثيقا، فقد آمن كذلك بأن هذا الايمان بما يمليه من واجبات وفهم، هو طريقه الأمثل والأوحد الى الحقيقة..

    وهكذا عكف على ايمانه مسلما الى نفسه، وعلى حياته يصوغها وفق هذا الايمان في عزم، ورشد، وعظمة..

    ومضى على الدرب حتى وصل.. وعلى الطريق حتى بلغ مستوى الصدق الوثيق.. وحتى كان يأخذ مكانه العالي مع الصادقين تماما حين يناجي ربه مرتلا آته..

    ( ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين).

    أجل.. لقد انتهى جهاد أبي الدرداء ضدّ نفسه، ومع نفسه الى تلك الذروة العالية.. الى ذلك التفوق البعيد.. الى ذلك التفاني الرهباني، الذي جعل حياته، كل حياته لله رب العالمين..!!




    **




    والآن تعالوا نقترب من الحكيم والقدّيس.. ألا تبصرون الضياء الذي يتلألأ حول جبينه..؟

    ألا تشمّون العبير الفوّاح القادم من ناحيته..؟؟

    انه ضياء الحكمة، وعبير الايمان..

    ولقد التقى الايمان والحكمة في هذا الرجل الأوّاب لقاء سعيدا، أيّ سعيد..!!

    سئلت أمه عن أفضل ما كان يحب من عمل.. فأجابت:

    " التفكر والاعتبار".

    أجل لقد وعى قول الله في أكثر من آية:

    (فاعتبروا يا أولي الأبصار)...

    وكان هو يحضّ اخوانه على التأمل والتفكّر يقول لهم:

    " تفكّر ساعة خير من عبادة ليلة"..

    لقد استولت العبادة والتأمل ونشدان الحقيقة على كل نفسه.. وكل حياته..



    ويوم اقتنع بالاسلام دينا، وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الدين الكريم، كان تاجرا ناجحا من تجار المدينة النابهين، وكان قد قضى شطر حياته في التجارة قبل أن يسلم، بل وقبل أن يأتي الرسول والمسلمون المدينة مهاجرين..

    بيد أنه لم يمض على اسلامه غير وقت وجيز حتى..

    ولكن لندعه هو يكمل لنا الحديث:

    " أسلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا تاجر..

    وأردت أن تجتمع لي العبادة والتجارة فلم يجتمعا..

    فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة.

    وما يسرّني اليوم أن أبيع وأشتري فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار، حتى لو يكون حانوتي على باب المسجد..

    ألا اني لا أقول لكم: ان الله حرّم البيع..

    ولكني أحبّ أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"..!!



    أرأيتم كيف يتكلّم فيوفي القضيّة حقها، وتشرق الحكمة والصدق من خلال كلماته..؟؟

    انه يسارع قبل أن نسأله: وهل حرّم الله التجارة يا أبا الدرداء...؟؟

    يسارع فينفض عن خواطرنا هذا التساؤول، ويشير الى الهدف الأسمى الذي كان ينشده، ومن أجله ترك التجارة برغم نجاحه فيها..

    لقد كان رجلا ينشد تخصصا روحيا وتفوقا يرنو الى أقصى درجات الكمال الميسور لبني الانسان..



    لقد أراد العبادة كمعراج يرفعه الى عالم الخير الأسمى، ويشارف به الحق في جلاله، والحقيقة في مشرقها، ولو أرادها مجرّد تكاليف تؤدّى، ومحظورات تترك، لاستطاع أن يجمع بينها وبين تجارته وأعماله...

    فكم من تجار صالحين.. وكم من صالحين تجار...



    ولقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم تلههم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله.. بل اجتهدوا في انماء تجارتهم وأموالهم ليخدموا بها قضية الاسلام، ويكفوا بها حاجات المسلمين..

    ولكن منهج هؤلاء الأصحاب، لا يغمز منهج أبو الدرداء، كما أن منهجه لا يغمز منهجهم، فكل ميسّر لما خلق له..



    وأبو الدرداء يحسّ احساسا صادقا أنه خلق لما نذر له حياته..

    التخصص في نشدان الحقيقة بممارسة أقصى حالات التبتل وفق الايمان الذي هداه اليه ربه، ورسوله والاسلام..

    سمّوه ان شئتم تصوّفا..

    ولكنه تصوّف رجل توفّر له فطنة المؤمن، وقدرة الفيلسوف، وتجربة المحارب، وفقه الصحابي، ما جعل تصوّفه حركة حيّة في ل\بناء الروح، لا مجرّد ظلال صالحة لهذا البناء..!!



    أجل..

    ذلك هو أبو الدرداء، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلميذه..

    وذلكم هو أبو الدرداء، الحكيم، القدّيس..

    ورجل دفع الدنيا بكلتا راحتيه، وزادها بصدره..

    رجل عكف على نفسه وصقلها وزكّاها، وحتى صارت مرآة صافية انعكس عليها من الحكمة، والصواب، والخير، ما جعل من أبي الدرداء معلما عظيما وحكيما قويما..

    سعداء، أولئك الذين يقبلون عليه، ويصغون اليه..

    ألا تعالوا نف\قترب من حكمته يا أولي الألباب..

    ولنبدأ بفلسفته تجاه الدنيا وتجاه مباهجها وزخارفها..

    انه متأثر حتى أعماق روحه بآيات القرآن الرادعة عن:

    ( الذي جمع مالا وعدّده.. يحسب أن ماله اخلده)...

    ومتأثر حتى أعماق روحه بقول الرسول:

    " ما قلّ وكفى، خير مما كثر وألهى"..

    ويقول عليه السلام:

    " تفرّغوا من هموم الدنيا ما استطعتم، فانه من كانت الدنيا أكبر همّه، فرّق الله شمله، وجعل فقره بين عينيه.. ومن كانت الآخرة أكبر همّه جمع شمله، وجعل غناه في قلبه، وكان الله اليه بكل خير أسرع".

    من أجل ذلك، كان يرثي لأولئك الذين وقعوا أسرى طموح الثروة ويقول:

    " اللهم اني أعوذ بك من شتات القلب"..

    سئل:

    وما شتات القلب يا أبا الدرداء..؟؟

    فأجاب:

    أن يكون لي في كل واد مال"..!!

    وهو يدعو الناس الى امتلاك الدنيا والاستغناء عنها.. فذلك هو الامتلاك الحقيقي لها.. أما الجري وراء أطماعها التي لا تؤذن بالانتهاء، فذلك شر ألوان العبودية والرّق.

    هنالك يقول:

    " من لم يكن غنيا عن الدنيا، فلا دنيا له"..

    والمال عنده وسيلة للعيش القنوع تامعتدل ليس غير.

    ومن ثم فان على الناس أن يأخذوه من حلال، وأن يكسبوه في رفق واعتدال، لا في جشع وتهالك.

    فهو يقول:

    " لا تأكل الا طيّبا..

    ولا تكسب الا طيّبا..

    ولا تدخل بيتك الا طيّبا".

    ويكتب لصاحب له فيقول:

    ".. أما بعد، فلست في شيء من عرض الدنيا، والا وقد كان لغيرك قبلك.. وهو صائر لغيرك بعدك.. وليس لك منه الا ما قدّمت لنفسك... فآثرها على من تجمع المال له من ولدك ليكون له ارثا، فأنت انما تجمع لواحد من اثنين:

    اما ولد صالح يعمل فيه بطاعة الله، فيسعد بما شقيت به..

    واما ولد عاص، يعمل فيه بمعصية الله، فتشقى بما جمعت له،

    فثق لهم بما عند الله من رزق، وانج بنفسك"..!



    كانت الدنيا كلها في عين أبي الدرداء مجرّد عارية..

    عندما فتحت قبرص وحملت غنائم الحرب الى المدينة رأى الناس أبا الدرداء يبكي... واقتربوا دهشين يسألونه، وتولى توجيه السؤال اليه:" جبير بن نفير":

    قال له:

    " يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الاسلام وأهله"..؟؟

    فأجاب أبو الدرداء في حكمة بالغة وفهم عميق:

    ويحك يا جبير..

    ما أهون الخلق على الله اذا هم تركوا أمره..

    بينما هي أمة، ظاهرة، قاهرة، لها الملك، تركت أمر الله، فصارت الى ما ترى"..!

    أجل..



    وبهذا كان يعلل الانهيار السريع الذي تلحقه جيوش الاسلام بالبلاد المفتوحة، افلاس تلك البلاد من روحانية صادقة تعصمها، ودين صحيح يصلها بالله..

    ومن هنا أيضا، كان يخشى على المسلمين أياما تنحلّ فيها عرى الايمان، وتضعف روابطهم بالله، وبالحق، وبالصلاح، فتنتقل العارية من أيديهم، بنفس السهولة التي انتقلت بها من قبل اليهم..!!




    **




    وكما كانت الدنيا بأسرها مجرّد عارية في يقينه، كذلك كانت جسرا الى حياة أبقى وأروع..

    دخل عليه أصحابه يعودونه وهو مريض، فوجدوه نائما على فراش من جلد..

    فقالوا له:" لو شئت كان لك فراش أطيب وأنعم.."

    فأجابهم وهو يشير بسبّابته، وبريق عينيه صوب الأمام البعيد:

    " ان دارنا هناك..

    لها نجمع.. واليها نرجع..

    نظعن اليها. ونعمل لها"..!!

    وهذه النظرة الى الدنيا ليست عند أبي الدرداء وجهة نظر فحسب بل ومنهج حياة كذلك..

    خطب يزيد بن معاوية ابنته الدرداء فردّه، ولم يقبل خطبته، ثم خطبها واحد من فقراء المسلمين وصالحيهم، فزوّجها أبو الدرداء منه.

    وعجب الناس لهذا التصرّف، فعلّمهم أبو الدرداء قائلا:

    " ما ظنّكم بالدرداء، اذا قام على رأسها الخدم والخصيا وبهرها زخرف القصور..

    أين دينها منها يومئذ"..؟!

    هذا حكيم قويم النفس، ذكي الفؤاد..

    وهو يرفض من الدنيا ومن متاعها كل ما يشدّ النفس اليها، ويولّه القلب بها..

    وهو بهذا لا يهرب من السعادة بل اليها..

    فالسعادة الحقة عتده هي أن تمتلك الدنيا، لا أن تمتلكك أنت الدنيا..

    وكلما وقفت مطالب الناس في الحياة عند حدود القناعة والاعتدال وكلما أدركوا حقيقة الدنيا كجسر يعبرون عليه الى دار القرار والمآل والخلود، كلما صنعوا هذا، كان نصيبهم من السعادة الحقة أوفى وأعظم..

    وانه ليقول:

    " ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك، ويكثر علمك، وأن تباري الناس في عبادة الله تعالى"..

    وفي خلافة عثمان رضي الله عنه، وكان معاوية أميرا على الشام نزل أبو الدرداء على رغبة الخليفة في أن يلي القضاء..

    وهناك في الشام وقف بالمرصاد لجميع الذين أغرّتهم مباهج الدنيا، وراح يذكّر بمنهج الرسول في حياته، وزهده، وبمنهج الرعيل الأول من الشهداء والصدّيقين..

    وكانت الشام يومئذ حاضرة تموج بالمباهج والنعيم..

    وكأن أهلها ضاقوا ذرعا بهذا الذي ينغصّ عليهم بمواعظه متاعهم ودنياهم..

    فجمعهم أبو الدرداء، وقام فيهم خطيبا:

    " يا أهل الشام..

    أنتم الاخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء..

    ولكن مالي أراكم لا تستحيون..؟؟

    تجمعون ما لا تأكلون..

    وتبنون ما لا تسكنون..

    وترجون ما لا تبلّغون..

    وقد كانت القرون من قبلكم يجمعون، فيوعون..

    ويؤمّلون، فيطيلون..

    ويبنون، فيوثقون..

    فأصبح جمعهم بورا..

    وأماهم غرورا..

    وبيوتهم قبورا..

    أولئك قوم عاد، ملؤا ما بين عدن الى عمان أموالا وأولادا..".

    ثم ارتسمت على شفتيه بسمة عريضة ساخرة، ولوّح بذراعه في الجمع الذاهل، وصاح في سخرية لا فحة:

    " من يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين"..؟!



    رجل باهر، رائع، مضيء، حكمته مؤمنة، ومشاعره ورعة، ومنطقه سديد ورشيد..!!

    العبادة عند أبي الدرداء ليست غرورا ولا تأليا. انما هي التماس للخير، وتعرّض لرحمة الله، وضراعة دائمة تذكّر الانسان بضعفه. وبفضل ربه عليه:

    انه يقول:

    التمسوا الخير دهركم كله..

    وتعرّضوا لنفجات رحمة الله، فان للله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده..

    " وسلوا الله أن يستر عوراتكم، ويؤمّن روعاتكم"...

    كان ذلك الحكيم مفتوح العينين دائما على غرور العبادة، يحذّر منه الناس.

    هذا الغرور الذي يصيب بعض الضعاف في ايمانهم حين يأخذهم الزهو بعبادتهم، فيتألّون بها على الآخرين ويدلّون..

    فلنستمع له ما يقول:

    " مثقال ذرّة من برّ صاحب تقوى ويقين، أرجح وأفضل من أمثال الجبال من عبادة النغترّين"..

    ويقول أيضا:

    "لا تكلفوا الناس ما لم يكلفوا..

    ولا تحاسبوهم دون ربهم

    عليكم أنفسكم، فان من تتبع ما يرى في الانس يطل حزنه"..!

    انه لا يريد للعابد مهما يعل في العبادة شأوه أن يجرّد من نفسه ديّانا تجاه العبد.

    عليه أن يحمد الله على توفيقه، وأن يعاون بدعائه وبنبل مشاعره ونواياه أولئك الذين لم يدركوا مثل هذا التوفيق.

    هل تعرفون حكمة أنضر وأبهى من حكمة هذا الحكيم..؟؟

    يحدثنا صاحبه أبو قلابة فيقول:

    " مرّ أبو الدرداء يوما على رجل قد أصاب ذنبا، والناس يسبّونه، فنهاهم وقال: أرأيتم لو وجدتموه في حفرة.. ألم تكونوا مخرجيه منها..؟

    قالوا بلى..

    قال: فلا تسبّوه اذن، وحمدوا الله الذي عافاكم.

    قالوا: أنبغضه..؟

    قال: انما أبغضوا عمله، فاذا تركه فهو أخي"..!!




    **




    واذاكان هذا أحد وجهي العبادة عند أبي الدرداء، فان وجهها الآخر هو العلم والمعرفة..

    ان أبا الدرداء يقدّس العلم تقديسا بعيدا.. يقدّسه كحكيم، ويقدّسه كعابد فيقول:

    " لا يكون أحدكم تقيا جتى يكون عالما..

    ولن يكون بالعلم جميلا، حتى يكون به عاملا".

    أجل..

    فالعلم عنده فهم، وسلوك.. معرفة، ومنهج.. فكرة حياة..

    ولأن تقديسه هذا تقديس رجل حكيم، نراه ينادي بأن العلم كالمتعلم كلاهما سواء في الفضل، والمكانة، والمثوبة..

    ويرى أن عظمة الحياة منوطة بالعلم الخيّر قبل أي شيء سواه..

    ها هو ذا يقول:

    " مالي أرى العلماء كم يذهبون، وجهّالكم لا يتعلمون؟؟ ألا ان معلّم الخير والمتعلّم في الأجر سواء.. ولا خير في سائر الناس بعدهما"..

    ويقول أيضا:

    " الناس ثلاثة..

    عالم..

    ومتعلم..

    والثالث همج لا خير فيه".



    وكما رأينا من قبل، لا ينفصل العلم في حكمة أبي الدرداء رضي الله عنه عن العمل.

    يقول:

    " ان أخشى ما أخشاه على نفسي أن يقال لي يوم القيامة على رؤوس الخلائق: يا عويمر، هل علمت؟؟

    فأقول نعم..

    فيقال لي: فماذا عملت فيما علمت"..؟

    وكان يجلّ العلماء العاملين ويوقرهم توقيرا كبيرا، بل كان يدعو ربّه ويقول:

    " اللهم اني أعوذ بك أن تلعنني قلوب العلماء.."

    قيل له:

    وكيف تلعنك قلوبهم؟

    قال رضي الله عنه:

    " تكرهني"..!

    أرأيتم؟؟

    انه يرى في كراهيّة العالم لعنة لا يطيقها.. ومن ثمّ فهو يضرع الى ربه أن يعيذه منها..



    وتستوصي حكمة أبي الدرداء بالاخاء خيرا، وتبنى علاقة الانسان بالانسان على أساس من واقع الطبيعة الانسانية ذاتها فيقول:

    " معاتبة الأخ خير لك من فقده، ومن لك بأخيك كله..؟

    أعط أخاك ولن له..

    ولا تطع فيه حاسدا، فتكون مثله.

    غدا يأتيك الموت، فيكفيك فقده..

    وكيف تبكيه بعد الموت، وفي الحياة ما كنت أديت حقه"..؟؟

    ومراقبة الله في عباده قاعدة صلبة يبني عليها أبو الدرداء حقوق الاخاء..

    يقول رضي الله عنه وأرضاه:

    " اني أبغض أن أظلم أحدا.. ولكني أبغض أكثر وأكثر، أن أظلم من لا يستعين عليّ الا بالله العليّ الكبير"..!!

    يل لعظمة نفسك، واشراق روحك يا أبا الدرداء..!!

    انه يحذّر الناس من خداع الوهك، حين يظنون أن المستضعفين العزّل أقرب منالا من أيديهم، ومن بأسهم..!

    ويذكّرهم أن هؤلاء في ضعفهم يملكون قوّة ماحقة حين يتوسلون الى الله عز وجل بعجزهم، ويطرحون بين يديه قضيتهم، وهو أنهم على الناس..!!

    هذا هو أبو الدرداء الحكيم..!

    هذا هو أبو الدرداء الزاهد، العابد، الأوّاب..

    هذا هو أبو الدرداء الذي كان اذا أطرى الناس تقاه، وسألوه الدعاء، أجابهم في تواضع وثيق قائلا:

    " لا أحسن السباحة.. وأخاف الغرق"..!!




    **




    كل هذا، ولا تحسن السباحة يا أبا الدرداء..؟؟

    ولكن أي عجب، وأنت تربية الرسول عليه الصلاة والسلام... وتلميذ القرآن.. وابن الاسلام الأوّل وصاحب أبي بكر وعمر، وبقيّة الرجال..!؟

  4. #4

    • كريم يحيى
    • Guest

    افتراضي الزبير بن العوّام - حواريّ رسول الله


    لا يجيء ذكر طلحة الا ويذكر الزبير معه..

    ولا يجيء ذكر الزبير الا ويذكر طلحة معه..

    فحين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يؤاخي بين أصحابه في مكة قبل الهجرة، آخى بين طلحة والزبير.

    وطالما كان عليه السلام يتحدث عنهما معا.. مثل قوله:

    " طلحة والزبير جاراي في الجنة".
    وكلاهما يجتمع مع الرسول في القرابة والنسب.

    أما طلحة، فيجتمع في نسبه مع الرسول في مرة بن كعب.

    وأما الزبير، فيلتقي في نسبه مع الرسول في قصّي بن كلاّب كما أن أمه صفية عمة الرسول صلى الله عليه وسلم..

    وكل منهما طلحة والزبير كان أكثر الناس شبها بالآخر في مقادير الحياة..

    فالتماثل بينهما كبير، في النشأة، في الثراء، في السخاء، في قوة الدين، في روعة الشجاعة، وكلاهما من المسلمين المبكرين باسلامهم...

    ومن العشرة الذين بشّرهم الرسول بالجتة. ومن أصحاب الشورى الستة الذين وكّل اليهم عمر اختيار الخليفة من بعده.

    وحتى مصيرهما كان كامل التماثل.. بل كان مصيرا واحدا.




    **




    ولقد أسلم الزبير، اسلاما مبكرا، اذ كان واحدا من السبعة الأوائل الذين سارعوا الى الاسلام، وأسهموا في طليعته المباركة في دار الأرقم..

    وكان عمره يومئذ خمس عشر سنة.. وهكذا رزق الهدى والنور والخير صبيا..

    ولقد كان فارسا ومقداما منذ صباه. حتى ان المؤرخين ليذكرون أن أول سيف شهر في الاسلام كان سيف الزبير.

    ففي الأيام الأولى للاسلام، والمسلمون يومئذ قلة يستخفون في دار الأرقم.. سرت اشاعة ذات يوم أن الرسول قتل.. فما كان من الزبير الا أن استلّ سيفه وامتشقه، وسار في شوارع مكة، على حداثة سنه كالاعصار..!

    ذهب أولا يتبيّن الخبر، معتزما ان ما ألفاه صحيحا أن يعمل سيفه في رقاب قريش كلها حتى يظفربهم أو يظفروا به..

    وفي أعلى مكة لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله ماذا به....؟ فأنهى اليه الزبير النبأ.. فصلى عليه الرسول، ودعا له بالخير، ولسيفه بالغلب.

    وعلى الرغم من شرف الزبير في قومه فقد حمل حظه من اضطهاد قريش وعذابها.

    وكان الذي تولى تعذيبع عمه.. كان يلفه في حصير، ويدخن عليه بالنار كي تزهق أنفاسه، ويناديه وهو تحت وطأة العذاب:" أكفر برب محمد، أدرأ عنك العذاب".

    فيجيبه الزبير الذي لم يكن يوم ذاك أكثر من فتى ناشئ، غضّ العظام.. يجيب عمه في تحدّ رهب:

    " لا..

    والله لا أعود لكفر أبدا"...

    ويهاجر الزبير الى الحبشة، الهجرتين الأولى والثانية، ثم يعود ليشهد المشاهد كلها مع رسول الله. لا تفتقده غزوة ولا معركة.



    وما أكثر الطعنات التي تلقاها جسده واحتفظ بها بعد اندمال جراحاتها، أوسمة تحكي بطولة الزبير وأمجاده..!!

    ولنصغ لواحد من الصحابة رأى تلك الأوسمة التي تزدحم على جسده، يحدثنا عنها فيقول:

    " صحبت الزبير بن العوّام في بعض أسفاره ورأيت جسده، فرأيته مجذّعا بالسيوف، وان في صدره لأمثال العيون الغائرة من الطعن والرمي.

    فقلت له: والله لقد شهدت بجسمك ما لم أره بأحد قط.

    فقال لي: أم والله ما منها جراحة الا مع رسول الله وفي سبيل الله"..

    وفي غزوة أحد بعد أن انقلب جيش قريش راجعا الى مكةو ندبه الرسول هو وأبو بكر لتعقب جيش قريش ومطاردته حتى يروا أن المسلمين قوة فلا يفكروا في الرجوع الى المدينة واستئناف القتال..



    وقاد أبو بكر والزبير سبعين من المسلمين، وعلى الرغم من أنهم كانوا يتعقبون جيشا منتصرا فان اللباقة الحربية التي استخدمها الصديق والزبير، جعلت قريشا تظن أنها أساءت تقدير خسائر المسلمين، وجعلتها تحسب أن هذه الطليعة القوية التي أجاد الزبير مع الصديق ابراز قوتها، وما هي الا مقدمة لجيش الرسول الذي يبدو أنه قادم ليشن مطاردة رهيبة فأغذّت قريش سيرها، وأسرعت خطاها الى مكة..!!



    ويوم اليرموك كان الزبير جيشا وحده.. فحين رأى أكثر المقاتلين الذين كان على رأسهم يتقهقرون أمام جبال الروم الزاحفة، صاح هو" الله أكبر".. واخترق تلك الجبال الزاحفة وحده، ضاربا بسيفه.. ثم قفل راجعا وسط الصفوف الرهيبة ذاتها، وسيف يتوهج في يمينه لا يكبو، ولا يحبو..!!

    وكان رضي الله عنه شديد الولع بالشهادة، عظيم الغرام بالموت في سبيل الله.

    وكان يقول:

    " ان طلحة بن عبيد الله يسمي بنيه بأسماء الأنبياء، وقد علم ألا نبي بعد محمد...

    واني لأسمي بنيّ بأسماء الشهداء لعلهم يستشهدون".!

    وهكذا سمى ولده، عبدالله بن الزبير تيمنا بالصحابي الشهيد عبدالله بن جحش.

    وسمى ولده المنذر، تيمنا بالشهيد المنذر بن عمرو.

    وسمى عروة تيمنا بالشهيد عروة بن عمرو.

    وسمى حمزة تيمنا بالشهيد الجليل عم الرسول حمزة بن عبدالمطلب.

    وسمّى جعفر، تيمنا بالشهيد الكبير جعفر بن أبي طالب.

    وسمى مصعبا تيمنا بالشهيد مصعب بن عمير.

    وسمى خالد تيمنا بالصحابي الشهيد خالد بن سعيد..

    وهكذا راح يختار لأبنائه أسماء الشهداء. راجيا أن يكونوا يوم تأتيهم آجالهم شهداء.

    ولقد قيل في تاريخه:

    " انه ما ولي امارة فط، ولا جباية، ولا خراجا ولا شيئا الا الغزو في سبيل الله".

    وكانت ميزته كمقاتل، تتمثل في في اعتماده التام على نفسه، وفي ثقته التامة بها.

    فلو كان يشاركه في القتال مائة ألف، لرأيته يقاتل وحده في لمعركة.. وكأن مسؤولية القتال والنصر تقع على كاهله وحده.

    وكان فضيلته كمقاتل، تتمثل في الثبات، وقوة الأعصاب..

    رأى مشهد خاله حمزة يوم أحد وقد كثّل المشركون بجثمانه القتيل في قسوة، فوقف أمامه كالطود ضاغطا على أسنانه، وضاغطا على قبضة سيفه، لا يفكر الا في ثأر رهيب سرعان ما جاء الوحي ينهى الرسول والمسلمين عن مجرّد التفكير فيه..!!

    وحين طال حصار بني قريظة دون أن يستسلموا أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم مع علي ابن أبي طالب، فوقف أمام الحصن المنيع يردد مع علي قوله:

    " والله لنذوقنّ ما ذاق حمزة، أو لنفتحنّ عليهم حصنهم"..

    ثم ألقيا بنفسيهما وحيدين داخل الحصن..

    وبقوة أعصاب مذهلة، أحكما انزال الرعب في أفئدة المتحصنين داخله وفتحا أبوابه للمسلمين..!!

    ويوم حنين أبصر مالك بن عوف زعيم هوزان وقائد جيش الشرك في تلك الغزوة.. أبصره بعد هزيمتهم في حنين واقفا وسط فيلق من أصحابه، وبقايا جيشه المنهزم، فاقتحم حشدهم وحده، وشتت شملهم وحده، وأزاحهم عن المكمن الذي كانوا يتربصون فيه ببعض زعماء المسلمين، العائدين من المعركة..!!




    **




    ولقد كان حظه من حب الرسول وتقديره عظيما..

    وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يباهي به ويقول:

    " ان لكل نبي حواريا وحواريي الزبير ن العوّام"..

    ذلك أنه لم يكن ابن عمته وحسب، ولا زوج أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين، بل كان ذلك الوفي القوي، والشجاع الأبيّ، والجوّاد السخيّ، والبائع نفسه وماله لله رب العالمين:

    ولقد أجاد حسان بن ثابت وصفه حين قال:

    أقام على عهد النبي وهديه

    حواريّه والقول بالفعل يعدل

    أقام على منهاجه وطريقه

    يوالي وليّ الحق، والحق أعدل

    هو الفارس المشهور والبطل الذي

    يصول، اذا ما كان يوم محجّل

    له من رسول الله قربى قريبة

    ومن نصرة الاسلام مجد موثّل

    فكم كربة ذبّ الزبير بسيفه

    عن المصطفى، والله يعطي ويجزل




    **




    وكان رفيع الخصال، عظيم الشمائل.. وكانت شجاعته وسخاؤه كفرسي رهان..!!

    فلقد كان يدير تجارة رابحة ناجحة، وكان ثراؤه عريضا، ولكنه أنفقه في الاسلام حتى مات مدينا..!!

    وكان توكله على الله منطلق جوده، ومنطلق شجاعته وفدائيته..

    حتى وهو يجود بروحه، ويوصي ولده عبدالله بقضاء ديونه قال له:

    " اذا أعجزك دين، فاستعن بمولاي"..

    وسال عبدالله: أي مولى تعني..؟

    فأجابه: الله، نعم المولى ونعم النصير"..

    يقول عبدالله فيما بعد:

    " فوالله ما وقعت في كربة من دينه الا قلت: يا مولى الزبير اقضي دينه، فيقضيه".

    وفي يوم الجمل، على النحو الذي ذكرنا في حديثنا السالف عن حياة سيدنا طلحة كانت نهاية سيدنا الزبير ومصيره..

    فبعد أن رأى الحق نفض يديه من القتال، وتبعه نفر من الذين كانوا يريدون للفتنة دوام الاشتعال، وطعنه القاتل الغادر وهو بين يدي ربه يصلي..

    وذهب القاتل الى الامام علي يظن أنه يحمل اليه بشرى حين يسمعه نبأ عدوانه على الزبير، وحين يضع بين يديه سيفه الذي استلبه منه، بعد اقتراف جريمته..

    لكن عليّا صاح حين علم أن بالباب قاتل الزبير يستأذن، صاح آمرا بطرده قائلا:

    " بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار"..

    وحين أدخلوا عليه سيف الزبير، قبّله الامام وأمعن بالبكاء وهو يقول:

    " سيف طالما والله جلا به صاحبه الكرب عن رسول الله"..!!



    أهناك تحيّة نوجهها للزبير في ختام حديثنا عنه، أجمل وأجزل من كلمات الامام..؟؟

    سلام على الزبير في مماته بعد محياه..

    سلام، ثم سلام، على حواري رسول الله...

  5. #5

    • د. محمد سعيد عيسى غير متواجد حالياً
    • مشرف

    تاريخ التسجيل
    Dec 2010
    العمر
    75
    المشاركات
    1,147

    افتراضي

    ابو وعد ..... وعدت فاوفيت
    والوفاء من شيم الصالحين
    وفيت لنا بذخيرة من السيرة العطرة
    سطرها قلمكم باقتدار وحنكة
    اثلج قلبى التجول فى بستان صحابة
    رسولنا المصطفى وبطولاتهم وغيرتهم على
    الاسلام وماكانت تلك الغيرة والحمية الا الاساس
    القوى لدين الله فى مهده .
    فالحمد لله والمنة والفضل منه ان جعلنا منتسبين للاسلام
    وجزاك الله كل خير ورفعة بكل حرف علمتنا اياه
    عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    ودمت لنا ودام عطاؤك

  6. #6

    • كريم يحيى
    • Guest

    افتراضي

    لا أخفيكم كم السعادة بهذا التواجد على صفحتى

    أشكركم المرور المميز والعطـــــر

    جل أحترامى لكم

+ الرد على الموضوع

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

المواضيع المتشابهه

  1. كنيسة عمرها اكثر من 1000 سنة ديكورها من عظام المسلمين +صور
    بواسطة عبير في المنتدى المنتدي العام
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 03-01-2011, 04:01 AM
  2. العلماء المسلمون
    بواسطة م/السيد محمد في المنتدى منتدى الكيمياء
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 18-07-2010, 04:21 PM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك