مروان بن الحكم

كانت هذه هي مميزات عهد القوة في الدولة الأموية، أمّا عهد الفتنة الذي تخلَّل عهدي القوة فقد بدأ بموت يزيد بن معاوية، ثم تنازل ابنه معاوية بن يزيد عن الخلافة؛ لرفضه مبدأ التوريث، واعتزاله الكامل في بيته حتى توفي بعد أيام أو أشهر، ومن هنا حدث فراغ في الحكم أسفر عن العديد من الصراعات بين أجنحة البيت الأموي بينهم وبين بعض، في الوقت الذي
أعلن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما نفسه خليفةً، وبايعه أغلب الولايات الإسلامية؛ حتى استطاع الأمويون الاتفاق فيما بينهم، وبايعوا مروان بن الحكم بالخلافة في مؤتمر الجابية في ذي القعدة سنة 64هـ.
كان مروان بن الحكم من سادات قريش وفضلائها، وقد قاتل يوم الدار قتالاً شديدًا، وقَتَلَ بعض الخوارج، وكان على الميسرة يوم الجمل، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يكثر السؤال عن مروان حين انهزم الناس يوم الجمل، يخشى عليه من القتل، فلما سُئِلَ عن ذلك قال: إنه يعطفني عليه رحم ماسَّة، وهو سيد من شباب قريش.
بعد أن استقرت الأمور لمروان في بلاد الشام، توجه نحو مصر لاستردادها من الزبيريين، فدانت له بالطاعة، وأقام مروان بن الحكم في مصر نحو شهرين ثم غادرها في أول رجب سنة 65هـ بعد أن وطَّد أمورها وأعادها ثانية للحكم الأموي، كما ولَّى عليها ابنه عبد العزيز وزوَّده بالنصائح المهمة، ثم قفل راجعًا إلى بلاد الشام.






عبد الملك بن مروان

وقد توفي مروان بن الحكم بدمشق لثلاثٍ خلون من شهر رمضان سنة 65هـ، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وذلك بعد عودته من مصر، وتولى ابنه عبد الملك الخلافة من بعده.
كانت شرعية خلافة عبد الملك بن مروان – وما زالت – محل خلاف بين علماء المسلمين، إذ في حين يعتبرها بعضهم شرعية، وأنه هو الخليفة الشرعي، يراها كثير منهم غير شرعية؛ لأن أغلب المسلمين قد بايعوا ابن الزبير قبله، فضلاً عن أفضلية عبد الله بن الزبير الصحابي الجليل عليه، وحسب هذا الرأي يُعتَبَر عبد الملك خارجًا على الخليفة الشرعي. ومن العلماء من توسَّط في الأمر كالسيوطي، فاعتبر ابن الزبير الخليفة الشرعي، فلما قُتِل صحت خلافة عبد الملك.

الحجاج يضرب الحرم بالمجانيق

كانت بداية الحكم صعبةً على عبد الملك؛ إذ واجه ثورات عديدة، كان أهمها ثورة التوابين، والتي استطاع أن يقضي عليها في معركة غير متكافئة في عين الوردة، قُتِلَ فيها معظم التوابين، وزعيمهم سليمان بن صرد، وكان ذلك في ربيع الآخر سنة 65هـ، ثم واجه ثورة المختار الثقفي، وتمكن المختار من هزيمة عبيد الله بن زياد وقتله، فتريث عبد الملك في مواجهته مرةً أخرى، وترك لابن الزبير تلك المهمة حتى يُضعِف الطرفين، وبالفعل حاصره مصعب بن الزبير في قصره بالكوفة، وقتله سنة 67هـ. بعد ذلك حانت المواجهة بين عبد الملك وعبد الله بن الزبير، وتمكن عبد الملك من الانتصار على مصعب بن الزبير أولاً، ثم أرسل جيشه بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي وحاصر عبد الله بن الزبير في مكة، وتجرَّأ الحجاج فضرب الحرم بالمجانيق؛ معتبرًا أن ابن الزبير بالتجائه إلى الحرم ممن يلحدون فيه، وظل القصف مستمرًّا، ولم يتوقف إلا لأداء الحُجَّاج للمناسك، ثم عاد مرةً أخرى، حتى استسلم كثير من أتباع ابن الزبير، وتخلَّوا عنه، وطلبوا الأمان من الحَجَّاج، فأعطاهم إياه، ثم استُشهِد ابن الزبير رضي الله عنه في السابع عشر من جمادى الأولى سنة 73 هـ، وبذلك انتهت دولته التي استمرت حوالي تسع سنين.

جهود اقتصادية غير مسبوقة

كان عبد الملك إداريًّا نابغة، وكانت خلافته نقلة عظيمة في تاريخ المسلمين من حيث عودة الاستقرار، وإعادة الوحدة إلى ربوع الخلافة، والارتقاء بسياسة الدولة الإسلامية، وتكوين مؤسسات، ونشر الإسلام على نطاق واسع.
وكان من جهود عبد الملك في إرساء دعائم الوحدة والاستقرار في الدولة الإسلامية، إصدار عملة إسلامية لأول مرة وتوحيد أوزانها، ضمانًا للعدالة.
وكانت هذه خطوة حضارية كبيرة، فقد حررت اقتصاد الدولة الإسلامية من الاعتماد على العملات الأجنبية، وبصفة خاصة الدينار البيزنطي.
ومن الأعمال الباهرة لعبد الملك تعريب دواوين الخراج، والذي كان العمل فيه حكرًا على غير العرب، وكان هذا وضعًا شاذًّا، فجاءت خطوة عبد الملك لتصحح الوضع، وتفتح المجال أمام العرب المسلمين للعمل في هذا الديوان، والتدريب على شئون المال والاقتصاد، وكانت تلك الخطوة ذات أثر حضاري كبير في التاريخ الإسلامي.
وقد تُوُفِّي عبد الملك في النصف من شوال عام 86 هـ، واستخلف من بعده ابنه الوليد، ثم من بعده ابنه الثاني سليمان