على عتبة التاريخ

كتاب تاريخ العالم - الفصل الأول - قبل التاريخ


تبدو الحيوانات التي تعيش في جماعات، مثل النمل والنحل وقطعان الأيل، على درجة عالية من التنظيم، كما تبدو أفضل من البشر في الحفاظ على القواعد في مجتمعاتها. ولكن السبب هو أنها في الحقيقة مختلفة كل الاختلاف عن البشر
فهي لا تلتزم أبداً بالقواعد، كما نفهمها نحن، بل تسلك سلوكاً آلياً تقريباً، أي أنها تفعل ما تفعله لأنها مبرمجة من خلال جيناتها أو من خلال أنماط سلوك محفورة فيها بصورة عميقة أو مغروزة، لذلك نسميها "غرائز" ولا يمكنها أن تسلك غير هذا السلوك إذا أرادت، بل إنها في الحقيقة لا تملك أن تريد أو أن لا تريد.
أما المجتمعات البشرية فأمرها مختلف، صحيح أنها مضطرة لأن تأخذ بالاعتبار طبيعة البشر الأساسية بحاجاتها ودوافعها ولكنها تقدم طرقاً مختلفة كثيرة للقيام بهذا الأمر، وكثيراً ما يختار أفرادها هذه الطرق بإرادتهم.
ففي كل أنحاء العالم مثلاً ينجذب الرجل والمرأة أحدهما إلى الآخر ويعيشان معاً وينجبان الأطفال، ولكن هناك الكثير من المجموعات المختلفة من القواعد التي يمكنهما أن يقوما بهذا الأمر ضمنها، وهذه القواعد وضعها البشر ولم تضعها الطبيعة. ففي إنكلترا مثلاً لا يسمح لك القانون باتخاذ أكثر من زوجة واحدة أو زوج واحد في الوقت نفسه، بينما يجيز لك ذلك في بلدان أخرى، أو لنأخذ مثالا مختلفاً تماماً:
منذ بضع مئات من السنين لم يكن ممكناً في أوروبا أن يتخذ المرء مهناً معينة، كصنع الأحذية مثلاً إلا بعد أن ينتمي إلى نقابة خاصة بمن يمارسون تلك المهنة ويخضع لقواعدها في طريقة أداء عمله.
ثم انهار هذا النظام لأسباب مختلفة، وانخفضت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر القيود القانونية المفروضة على الإنسان في اتخاذ المهنة التي يريدها والعمل بها كما يشاء، ولكن بقي من الصعب في بعض البلاد أن يختار الإنسان مهناً معينة دون الانتماء إلى النقابة المهنية المناسبة.
قد لا يبدو للوهلة الأولى أن لهذا الأمر علاقة بما قبل التاريخ، ولكنه يجب أن يلفت انتباهنا إلى حقيقة أن ما نسميه "مؤسسات اجتماعية" أي طرقاً في تنظيم الناس لفعل الأشياء، هي إلى حد ما من اختيار المجتمعات المختلفة، وأنها قد تتباين كثيراً من مجتمع لآخر، وقد كان هذا الأمر صحيحاً حتى في الأزمنة الباكرة.

تدل الفروق في الأساليب التقليدية لفعل الأشياء على أن بعض المجتمعات البشرية كانت قد أصبحت متميزة جداً منذ نهاية الأزمنة قبل التاريخية. وكان نهجها لتقاليدها الخاصة قد بدأ منذ زمن بعيد في العصر الباليوليتي. إلا أن تلك الفروق قد صارت أكثر حدة بكثير مع الاستقرار، وكان هذا بالطبع نتيجة أخرى من نتائج قدوم الزراعة. ففي أعالي وادي أحد روافد نهر دجلة، على هضاب يقطنها الأكراد، كانت هناك بحلول عام 6500 ق.م قرية صغيرة في مكان يدعى جرمو، لم يكن أهلها يعرفون تسخين الفخار بعد، ولكن كانت لديهم منازل من الصلصال، وكانت أساساتها من الحجر أحياناً وفيها أكثر من غرفة واحدة، وكان في بعض مساكنهم قطع أثاث ثابتة، مثل الأفران والأحواض المتوضعة في الأرض.
وكان بإمكان سكانها أن يصنعوا أواني من الحجر الأملس عن طريق قطعه وشحذه، كما كانوا يصنعون منه أغراضاً للزينة مثل حبات الخرز والأساور. وكانوا يمارسون الزراعة وكانت لديهم حيوانات مدجنة من نعاج وماعز وثيران وخنازير وكلاب أيضاً. منذ ذلك الحين كان بعض الناس في جرمو يتميزون عن غيرهم بامتلاك ثروات صغيرة من أغراض زينة وأسلحة يعتزون بها. كان هناك دور للأفراد المختصين في هذا المكان، إذ لم يكن هناك بد من تنظيم شؤونها الإشراف على عمليات الحصاد وتخزين المحاصيل، ولكن عدد الأشخاص في جرمو لم يتجاوز بعض مئات على الأرجح. فإذا ابتعدنا غرباً إلى فلسطين، وجدنا أن أريحا كان يسكنها حوالي ثلاثة آلاف شخص في ذلك الوقت، وكانت هذه مجموعة كبيرة من الناس.

كان في أريحا واحة هامة تحتاج إدارتها وصيانتها إلى تنظيم كبير، لذلك كانت الحاجة فيها للمهارات المختصة والحكومة المنظمة أكبر بكثير منها في جرمو. كانت تنشأ خلال العصر النيوليتي إذن، على الأقل بالشرق الأدنى، جماعات أكبر يؤدي لها الناس الولاء والطاعة، وكانت حياة البشر قد ابتعدت كثيراً عن حياة القبائل الرحل، وسارت باتجاه تنظيم الحياة الاجتماعية في وحدات أرضية مستقرة وخاضعة للقوانين نفسها، ومازالت هذه هي طريقة حكم الناس التي نألفها اليوم.


مازلنا نجهل كيف كان كل من الرجل والمرأة يرى دور الآخر في تلك المجتمعات الباكرة، ولكن لابد أن تكون جذور هذا الأمر كامنة في الحقائق البيولوجية والاقتصادية المذكورة آنفاً.
لما كان أطفال البشر وهم مستقبل القبيلة محتاجين إلى الكثير من العناية المديدة، فقد ترسخ تقسيم العمل بين الجنسين على الأرجح قبل أن تصبح الجماعات أكثر استقراراً، فصار الرجال يذهبون إلى الصيد وجمع الطعام، وبينما تبقى النساء في البيت. وعلى هذا التقسيم سوف تنمو تقاليد مختلفة من التربية، فيذهب الصبية مع الرجال عندما يكبرون ويصبحون قادرين على مجاراتهم في الصيد، أو لا يعودون مصدر إزعاج لهم على الأقل، أما النساء فربما كن يتعلمن مراقبة الحياة النباتية بعناية قرب البيت، فيجمعن المحاصيل المفيدة والمغذية، وربما كن يشكلن في أماكن كثيرة قوة العمل الأساسية في الزراعة، كما هي الحال اليوم. إننا نعلم بالتأكيد أنه قبل أن نصل إلى عصر التاريخ كانت قد ظهرت أشياء كثيرة سوف تصبح عادية طوال آلاف السنين، وسوف تستمر حتى اليوم.


لنأخذ عام 5000 ق.م كنقطة إشراف وهمية، وليس لهذا التاريخ أية ميزة خاصة عدا عن أنه سهل التذكر. في ذلك الزمان كان شكل الأرض قريباً جداً من شكلها الحالي، ولم تتغير أشكال القارات وحواجز الاتصال ومسالكه الطبيعية كثيراً منذ ذلك الحين. كما يمكننا أن نعتبر أن المناخ قد استقر خلال هذه الفترة لأن سبعة آلاف سنة هي فترة زمنية لا تذكر بالقياس إلى تقلبات المناخ العنيفة على مدى مئات الألوف من السنين قبل آخر عصر جليدي، ولا يحتاج المؤرخ بعدها إلا للنظر في تقلباته القصيرة المدى. في المستقبل كان يقبع العصر الذي مازلنا نعيش فيه والذي كان أكثر التغيير فيه من صنع الإنسان.

كانت بعض أجزاء العالم في عام 5000 ق.م قد قطعت شوطاً بعيداً ضمن الحقبة النيوليتية، فصارت حياة البشر كثيرة التنوع والتعقيد، ومختلفة جداً عن حياة الإنسان المنتصب، الذي كان قد بقي على حاله في كل مكان تقريباً رغم تطوراته الكبيرة. ولكن حياة الإنسان المنتصب كانت بدورها مختلفة جداً عن حياة الأشكال الضعيفة البائسة من قرد الجنوب، التي كانت تنتقل حول البحيرة التي كانت تملأ ممر أولدفاي الحالي منذ مليوني عام خلت، والتي لم تكن وسائلها في البقاء بأفضل من وسائل البهائم التي تزحف قربها وتشاركها موارد غذائها.


بحلول الأزمنة النيوليتية أصبحنا في عالم ملأه البشر بتنوعهم وطاقاتهم الكامنة، وسوف يزداد هذا التنوع. سوف تتطور بعض الجماعات البشرية بسرعة، بينما تتطور بعضها ببطء، وسوف تلعب قوى جديدة دورها في تطور البشر مع اتصال الشعوب المختلفة بعضها ببعض وتعلمها الواحد من الآخر، أو مع تفكيرها في خبراتها واندفاعها نحو تجارب جديدة.
أي أن تنوع البشرية سوف ينشأ أكثر فأكثر من قدرتها على تغيير الأمور بطريقة واعية فضلاً عن حقائق البيئة العمياء. وسوف تكون النتيجة المزيد من التعقيد، فلم توجد يوماً إمكانيات لاختلاف البشر كما هي الحال في عالمنا اليوم. ولكن العالم كان متنوعاً جداً حتى في عام 5000 ق.م، وليس ثمة خط واضح يفصل نهاية حقبة بشرية عن الأخرى، بل مرحلة زمنية ضبابية غير واضحة الحدود، فيندفع بعض الناس إلى الأمام على طريقهم نحو التحضر، بينما يبقى غيرهم عالقين في العصر الحجري الذي سوف يظل بعضهم فيه بعد آلاف السنين.


لقد صار تسارع التغيير في هذا العالم هائلاً، وكان قد ابتدأ في زمن بعيد من مرحلة ما قبل التاريخ. ومن المهم هنا أن نرى الأمور بأبعادها الصحيحة. إن من يذكر اليوم أن الطائرة لم تكن موجودة عام 1900م، وأن الطاقة الذرية لا يزيد عمرها عن نحو خمسين سنة، وأن الكثير من أمم أفريقيا لم تكن قد اكتشفت قبل أربعين عاماً، وأن مرض الإيدز لم يعرف إلا في الثمانينيات؛ يُعْذَر إذا شعر أن شيئاً لم يتغير لقرون طويلة في العصور الوسطى مثلاً، فقد بقي الناس في قسم كبير من أوروبا يزرعون في القرن الخامس عشر بالطريقة نفسها التي كانوا يزرعون بها في القرن التاسع. ولكنك إذا نظرت إلى الفن الأوروبي في الأبنية مثلاً، في عام 800 م ثم بعد ذلك بخمسمائة عام، وجدت أن تغيراً كبيراً جداً قد حصل.


أما فيما يتعلق بأول الفنون التي ظهرت، أي فن العصر الباليوليتي الأعلى، فيقول لنا الخبراء إن رسوم الكهوف العظيمة تكاد تظهر تغيراً لا يذكر في الأسلوب طوال خمسة أو ستة آلاف سنة. وإذا عدت إلى الماضي الأبعد، وجدت أن الاستمرار الطويل لطرق صنع الأدوات من الحجر دليل على بطء أكبر في التطور، وإذا رجعت إلى أزمنة أبكر منها أيضاً وجدت أن التطور الفيزيولوجي للكائنات البشرية يمكن ملاحظته، ولكنه كان ببطء أنهار الجليد حتى بالقياس إلى التغيرات الهزيلة في الفن الباليوليتي.


إن السبب الحاسم لهذا التسارع الكبير في حدوث التغيير بحلول عام 5000 ق.م هو أن المصدر الأساسي للتجديد كان قد انتقل في ذلك الحين من القوى الطبيعية إلى البشر أنفسهم، وعند نهاية ما قبل التاريخ باتت قصة البشرية قصة اختيارات متزايدة. إن البشر يتخذون قرارات أكثر فأكثر للتصرف والتأقلم بأساليب معينة من أجل مواجهة مشاكلهم وتطوير طرق معينة في أداء الأشياء واستخدام مواد أو مهارات معينة.
لهذا فإن ما يمكننا اعتباره أهم تغير على الإطلاق قد حدث في البداية، ولو أننا لا نستطيع أن نعلم زمانه أو مكانه بالتحديد. لقد حصل هذا عندما بدأ كائن ما ربما يكاد يكون بشرياً في أعيننا، يفكر في العالم كمجموعة من الأشياء المنفصلة والمتميزة عنه، ولو أمكننا أن نعلم متى حدث هذا التطور لربما كانت تلك خير بداية لما قبل تاريخ الإنسان، لأنها هي التي فتحت الطريق لاستخدام العالم. وتلك هي قصة كل الانتقال من الحياة التي تشكلها الطبيعة بصورة عمياء إلى الحياة التي تشكلها ثقافة البشر وتقاليدهم.
ومن بعد ذلك يظهر ما يشبه الفائدة المركبة، لأنه مع ازدياد أعداد البشر اتسعت ساحات مواهبهم وتراكمت إنجازاتهم وخبراتهم التي يمكنهم التعويل عليها واستثمارها، وحتى الجماعات الصغيرة لم تعد بها حاجة لتجشم عناء تعلم كل شيء من البداية.

إلا أننا نعلم جيداً أن البشر بالرغم من كل هذا قد خلقوا مشاكل جديدة بمثل سرعة حلهم للمشاكل القديمة، وأن قصة البشرية مليئة بالنكسات والفشل المأساوي أحياناً. ولكن هذا الأمر يعود فيؤكد من جديد حقيقة أساسية تتعلق بالبشر عند اقترابهم من حقبة خلق الحضارات الأولى، هي أنهم فريدون من ناحية قيامهم باستخدام العالم وتغييره بطريقة واعية.
إن إحدى الطرق القليلة الجيدة لوصف الإنسان العاقل هي أنه قبل كل شيء حيوان صانع للتغيير، والدليل على هذا إنما يكمن فيما فعله، أي في تاريخه.
وراء هذا التاريخ يقبع كل ما نظرنا إليه في هذا الكتاب نظرة سريعة، ملايين من السنين كانت خلالها الكائنات تتشكل بطرق جعلت البشر وحدهم من بين الرئيسات قادرين على قولبة مصائرهم، ومع أنهم لم يكونوا قادرين على فعل ذلك إلا ضمن حدود ضيقة، فإن أبكر الأدلة على تأثيره تعود إلى أزمان قديمة جداً.