قال خلف الأحمر: بعث إليَّ الرشيدُ في تأديب ولده محمد الأمين، فقال:
«يا أحمرُ، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصيِّر يدك عليه مبسوطة
وطاعته لك واجبة؛ فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين:
أَقْرِئْهُ القرآن، وعرِّفه الأخبار، وروِّه الأشعار، وعلمه السنن، وبصِّرْه بمواقع الكلام وبدئه
وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه
ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه. ولا تَمُرَّن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميتَ ذهنه.
ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفَه.
وقوِّمه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإنْ أباهما فعليك بالشدة والغلظة».
ولهارونَ الرشيدِ كلام وصَّى به بنيه حين سمعهم يتعاطَوْن الغريب في محاورتهم
ويجنحون إلى الغليظ من الكلام، ننسخه لك من "وصايا الآباء للأبناء"
قال هارون لبنيه:
(( لا تَحْمِلُوا ألسنتَكم على وَحْشِيِّ الكلام، ولا تُعَوِّدُوها المستشنع ولا المتصنع؛ فان العادة ألزم من الطبع.
واعتمدوا سهولة الكلام من غير استكراه ولا مؤونة تَكلُّف.
سيِّدُ الكلام ما ارتفع عن طبقة العامة، وانخفض عن درجة المتشدقين، وخالف سُبُل المُغْرِقين.
فليكن كلامكم قَصْدًا، وألفاظكم عددًا؛ فإن الإكثار يمحق البيان، ومِن قِبَلِهِ تحدث الآفةُ على اللسان.
وتحامَوا الأُنس بالسلطان، وكلما رفع دونكم سترًا من الحشمة فاحتجبوا عنه بستر من الإعظام
وكونوا أشدَّ ما يكون لكم بسطًا أشدَّ ما تكونون له هيبة )).
ثم تمثل بأبيات الخَطَفَي جَدِّ جريرٍ1:
عجبتُ لإزراء العيِيِّ بنفسه وصمتِ الذي قد كان بالنطق أعلما
وفي الصمت سترٌ للغبي وإنما صحيفة لب المرء أن يتكلما
ومَن لا يصب قَصْدَ الكلامِ لسانُهُ وصَاحَبَهُ الإكثارُ كان مُذَمَّما
إذا نِلْتَ إِنْسِيَّ المقالة فليكن به ظَهْرُ وحشيِّ الكلام محرَّما
وإنْ أكثر السلطانُ أُنْسَكَ فاحترز ولا تَفْغَرَنْ إلا بهيبته فما
1 واسمُ الخطفيِّ: حذيفةُ بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك.
مواقع النشر (المفضلة)