+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 16

الموضوع: المسلمون الأوائل

  1. #1

    • كريم يحيى
    • Guest

    افتراضي المسلمون الأوائل

    مصعب بن عمير - أول سفراء الاسلام

    ---------------------------------------

    هذا رجل من أصحاب محمد ما أجمل أن نبدأ به الحديث.
    غرّة فتيان قريش، وأوفاهم جمالا، وشبابا..
    يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون:" كان أعطر أهل مكة"..
    ولد في النعمة، وغذيّ بها، وشبّ تحت خمائلها.
    ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به "مصعب بن عمير"..
    ذلك الفتر الريّان، المدلل المنعّم، حديث حسان مكة، ولؤلؤة ندواتها ومجالسها، أيمكن أن يتحوّل الى أسطورة من أساطير الإيمان والفداء..؟
    بالله ما أروعه من نبأ.. نبأ "مصعب بن عمير"، أو "مصعب الخير" كما كان لقبه بين المسلمين.
    انه واحد من أولئك الذين صاغهم الإسلام وربّاهم "محمد" عليه الصلاة والسلام..
    ولكن أي واحد كان..؟
    ان قصة حياته لشرف لبني الإنسان جميعا..
    لقد سمع الفتى ذات يوم، ما بدأ أهل مكة يسمعونه من محمد الأمين صلى الله عليه وسلم..
    "محمد" الذي يقول أن الله أرسله بشيرا ونذيرا. وداعيا الى عبادة الله الواحد الأحد.
    وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا همّ لها، ولا حديث يشغلها إلا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه، كان فتى قريش المدلل أكثر الناس استماعا لهذا الحديث.
    ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه، زينة المجالس والندوات، تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها، ذلك أن أناقة مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال "ابن عمير التي تفتح له القلوب والأبواب..
    ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه، يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها.. هناك على الصفا في درا "الأرقم بن أبي الأرقم" فلم يطل به التردد، ولا التلبث والانتظار، بل صحب نفسه ذات مساء الى دار الأرقم تسبقه أشواقه ورؤاه...
    هناك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن، ويصلي معهم لله العليّ القدير.
    ولم يكد مصعب يأخذ مكانه، وتنساب الآيات من قلب الرسول متألفة على شفتيه، ثم آخذة طريقها الى الأسماع والأفئدة، حتى كان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..!
    ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه، وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.
    ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج، والفؤاد المتوثب، فكانت السكينة العميقة عمق المحيط.. وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما بفوق ضعف سنّه وعمره، ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان..!!!
    كانت أم مصعب "خنّاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة في شخصيتها، وكانت تهاب الى حد الرهبة..
    ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الأرض قوة سوى أمه.
    فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها، استحالت هولا يقارعه ويصارعه، لاستخف به مصعب الى حين..
    أما خصومة أمه، فهذا هو الهول الذي لا يطاق..!
    ولقد فكر سريعا، وقرر أن يكتم إسلامه حتى يقضي الله أمرا.
    وظل يتردد على دار الأرقم، ويجلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قرير العين بإيمانه، وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم خبر إسلامه خبرا..
    ولكن مكة في تلك الأيام بالذات، لا يخفى فيها سر، فعيون قريش وآذانها على كل طريق، ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة اللاهبة، الواشية..
    ولقد أبصر به "عثمان بن طلحة" وهو يدخل خفية الى دار الأرقم.. ثم رآه مرة أخرى وهو يصلي كصلاة محمد صلى الله عليه وسلم، فسابق ريح الصحراء وزوابعها، شاخصا الى أم مصعب، حيث ألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها...
    ووقف مصعب أمام أمه، وعشيرته، وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته، القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم، ويملؤها به حكمة وشرفا، وعدلا وتقي.
    وهمّت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، ولكن اليد التي امتدت كالسهم، ما لبثت أم استرخت وتنحّت أمام النور الذي زاد وسامة وجهه وبهاءه جلالا يفرض الاحترام، وهدوءا يفرض الإقناع..
    ولكن، إذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى، فان في مقدرتها أن تثأر للآلهة التي هجرها بأسلوب آخر..
    وهكذا مضت به الى ركن قصي من أركان دارها، وحبسته فيه، وأحكمت عليه إغلاقه، وظل رهين محبسه ذاك، حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة، فاحتال لنفسه حين سمع النبأ، وغافل أمه وحراسه، ومضى الى الحبشة مهاجرا أوّابا..
    ولسوف يمكث بالحبشة مع إخوانه المهاجرين، ثم يعود معهم الى مكة، ثم يهاجر الى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين يأمرهم الرسول بالهجرة فيطيعون.
    ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة، فان تجربة إيمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان، ولقد فرغ من إعادة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار، واطمأن مصعب الى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها الأعلى، وخالقها العظيم..
    خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله، فما ان بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيّا..
    ذلك أنهم رأوه.. يرتدي جلبابا مرقعا باليا، وعاودتهم صورته الأولى قبل إسلامه، حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة، وألفا وعطرا..
    وتملى رسول الله مشهده بنظرات حكيمة، شاكرة محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة، وقال:
    " لقد رأيت مصعبا هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله".!!
    لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها إنسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها، حتى ولو يكون هذا الإنسان ابنها..!!
    ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه..
    وإنها لتعلم صدق عزمه إذا همّ وعزم، فودعته باكية، وودعها باكيا..
    وكشفت لحظة الوداع عن إصرار عجيب على الكفر من جانب الأم وإصرار أكبر على الإيمان من جانب الابن.. فحين قالت له وهي تخرجه من بيتها: اذهب لشأنك، لم أعد لك أمّا. اقترب منها وقال:"يا أمّه إني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا اله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله"...
    أجابته غاضبة مهتاجة:" قسما بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف عقلي"..!!
    وخرج مصعب من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتأنق المعطّر، لا يرى إلا مرتديا أخشن الثياب، يأكل يوما، ويجوع أياما ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة، والمتألقة بنور الله، كانت قد جعلت منه إنسانا آخر يملأ الأعين جلال والأنفس روعة...
    وآنئذ، اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن يكون سفيره الى المدينة، يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم..
    كان في أصحاب رسول الله يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها، وأقرب من الرسول قرابة.. ولكن الرسول اختار مصعب الخير، وهو يعلم أنه يكل إليه بأخطر قضايا الساعة، ويلقي بين يديه مصير الإسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة، ومنطلق الدعوة والدعاة، والمبشرين والغزاة، بعد حين من الزمان قريب..
    وحمل مصعب الأمانة مستعينا بما أنعم الله عليه من رجاحة العقل وكريم الخلق، ولقد غزا أفئدة المدينة وأهلها بزهده وترفعه وإخلاصه، فدخلوا في دين الله أفواجا..
    لقد جاءها يوم بعثه الرسول إليها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة، ولكنه لم يكد يتم بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول..!!
    وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة، كان مسلمو المدينة يرسلون الى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم.. وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة.. جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم إليهم "مصعب ابن عمير".
    لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار..
    فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها.وعرف أنه داعية الى الله تعالى، ومبشر بدينه الحق يدعوا الناس الى الهدى، والى صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به، ليس عليه إلا البلاغ..
    ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه، لولا فطنة عقله، وعظمة روحه..
    ذات يوم فاجأه وهو يعظ الانس "أسيد بن خضير" سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، فاجأه شاهرا حربته ويتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم.. ويدعوهم لهجر آلهتهم، ويحدثهم عن اله واحد لم يعرفوه من قبل، ولم يألفوه من قبل..!
    ان آلهتهم معهم رابضة في مجاثمها وإذا أحتاجها أحد عرف مكانها وولى وجهه ساعيا إليها، فتكشف ضرّه وتلبي دعاءه... هكذا يتصورون ويتوهمون..
    أما اله محمد الذي يدعوهم إليه باسمه هذا السفير الوافد إليهم، فما أحد يعرف مكانه، ولا أحد يستطيع أن يراه..!!
    وما ان رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد ابن حضير متوشحا غضبه المتلظي، وثورته المتحفزة، حتى وجلوا.. ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا، متهللا..
    وقف أسيد أمامه مهتاجا، وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:
    "ما جاء بكما الى حيّنا، تسهفان ضعفاءنا..؟ اعتزلانا، إذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة"..!!
    وفي مثل هدوء البحر وقوته..
    وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته.. انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال:
    "أولا تجلس فتستمع..؟! فان رضيت أمرنا قبلته.. وان كرهته كففنا عنك ما تكره".
    الله أكبر. ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام..!!
    كان أسيد رجلا أديبا عاقلا.. وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه الى ضميره، فيدعوه أن يسمع لا غير.. فان اقتنع، تركه لاقتناعه وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم، وتحول الى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضارّ ولا مضارّ..
    هنالك أجابه أسيد قائلا: أنصفت.. وألقى حربته الى الأرض وجلس يصغي..
    ولم يكد مصعب يقرأ القرآن، ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، حتى أخذت أسارير أسيد تبرق وتشرق.. وتتغير مع مواقع الكلم، وتكتسي بجماله..!!
    ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائلا:
    "ما أحسن هذا القول وأصدقه.. كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين"..؟؟
    وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض رجّا، ثم قال له مصعب:
    "يطهر ثوبه وبدنه، ويشهد أن لا اله إلا الله".
    فغاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه، ووقف يعلن أن لا اله إلا الله، وأن محمدا رسول الله..
    وسرى الخبر كالضوء.. وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع، وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة، وتمت بإسلامهم النعمة، وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: إذا كان أسيد بن حضير، وسعد ابن معاذ، وسعد بن عبادة قد أسلموا، ففيم تخلفنا..؟ هيا الى مصعب، فلنؤمن معه، فأنهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه..!!
    لقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير.. نجاحا هو له أهل، وبه جدير..
    وتمضي الأيام والأعوام، ويهاجر الرسول وصحبه الى المدينة، وتتلمظ قريش بأحقادها.. وتعدّ عدّة باطلها، لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر، فيتلقون فيها درسا يفقدهم بقية صوابهم ويسعون الى الثأر،و تجيء غزوة أحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم، ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم وسط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية.. ويدعو مصعب الخير، فيتقدم ويحمل اللواء..
    وتشب المعركة الرهيبة، ويحتدم القتال، ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويغادرون موقعهم في أعلى الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين، لكن عملهم هذا، سرعان ما يحوّل نصر المسلمين الى هزيمة.. ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل، وتعمل فيهم على حين غرّة، السيوف الظامئة المجنونة..
    حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف المسلمين، ركزا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوه..
    وأدرك مصعب بن عمير الخطر الغادر، فرفع اللواء عاليا، وأطلق تكبيرة كالزئير، ومضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء اليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، وجرّد من ذاته جيشا بأسره.. أجل، ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لجب غزير..
    يد تحمل الراية في تقديس..
    ويد تضرب بالسيف في عنفوان..
    ولكن الأعداء يتكاثرون عليه، يريدون أن يعبروا فوق جثته الى حيث يلقون الرسول..
    لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الخاتم في حياة مصعب العظيم..!!
    يقول ابن سعد: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه قال:
    [حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قميئة وهو فارس، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..
    وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه الى صدره وهو يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..
    ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح، ووقع مصعب، وسقط اللواء].
    وقع مصعب.. وسقط اللواء..!!
    وقع حلية الشهادة، وكوكب الشهداء..!!
    وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء والايمان..
    كان يظن أنه اذا سقط، فسيصبح طريق القتلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة..
    ولكنه كان يعزي نفسه في رسول الله عليه الصلاة والسلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعا:
    (وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل)
    هذه الآية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها، ويكملها، ويجعلها، قرآنا يتلى..
    وبعد انتهاء المعركة المريرة، وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا، وقد أخفى وجهه في تراب الأرض المضمخ بدمائه الزكية..
    لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول الله يصيبه السوء، فأخفى وجهه حتى لا يرى هذا الذي يحاذره ويخشاه..!!
    أو لكأنه خجلان اذ سقط شهيدا قبلأن يطمئن على نجاة رسول الله، وقبل أن يؤدي الى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه..!!
    لك الله يا مصعب.. يا من ذكرك عطر الحياة..!!
    وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها..

    وعند جثمان مصعب، سالت دموع وفيّة غزيرة..

    يقوا خبّاب بن الأرت:
    [هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل اله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء يكفن فيه الا نمرة.. فكنا اذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، واذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الاذخر"..]..
    وعلى الرغم من الألم الحزين العميق الذي سببه رزء الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة، وتمثيل المشركين يجثمانه تمثيلا أفاض دموع الرسول عليه السلام، وأوجع فؤاده..
    وعلى الرغم م امتاتء أرض المعركة بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما من الصدق والطهر والنور..
    على الرغم من كل هذا، فقد وقف على جثمان أول سفرائه، يودعه وينعاه..
    أجل.. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما:
    (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)
    ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي مفن بها وقاللقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمّة منك. "ثم هأنتذا شعث الرأس في بردة"..؟!
    وهتف الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال:
    "ان رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة".
    ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:
    "أيها الناس زوروهم،وأتوهم، وسلموا عليهم، فوالدي نفسي بيده، لا يسلم عليهم مسلم الى يوم القيامة، إلا ردوا عليه السلام"..
    السلام عليك يا مصعب..
    السلام عليكم يا معشر الشهداء..
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


    الموضوع الأصلي: المسلمون الأوائل // الكاتب: كريم يحيى // المصدر: خير بلدنا الزراعي

    كلمات البحث

    راعي عام زراعه عامة .انتاج حيواني .صور زراعية .الصور الزراعية .هندسة زراعية.ارانب. ارنب.الارنب.خضر.خضار.خضر مكشوفة.محصول.محاصيل.المحاصيل.ابحاث زراعية.بحث زراعي.بحث مترجم.ترجمة بحثية.نباتات طبية.نباتات عطرية.تنسيق حدائق.ازهار .شتلات.افات.افة.الافة.حشرات.حشرة.افة حشريا.نيماتودا.الديدان الثعبانية.قمح.القمح.الشعير.الارز.ارز.اراضي طينية. اراضي رملية.برامج تسميد.استشارات زراعية .برامج مكافحة.امراض نبات .الامراض النباتية.مرض نباتي.فطريات .بكتيريا.كيمياء زراعية .الكيمياء الزراعيه.تغذية .التغذية.خضر مكشوفة.صوب زراعية.السمك.زراعه السمك.مشتل سمكي. زراعة الفيوم.مؤتمرات زراعية.مناقشات زراعية.التقنية.براتمج نت.برامج جوال.كوسة, خيار,طماطم.بندورة.موز.بطيخ؟خيار.صوب.عنكبوت.ديدان.بياض دقيقي.بياض زغبي.فطريا



  2. #2

    • كريم يحيى
    • Guest

    افتراضي صهيب بن سنان - ربح البيع يا أبا يحيى!!

    ولد في أحضان النعيم..
    فقد كان أبوه حاكم الأبلّة ووليا عليها لكسرى.. وكان من العرب الذين نزحوا الى العراق قبل الإسلام بعهد طويل، وفي قصره القائم على شاطئ الفرات، مما يلي الجزيرة والموصل، عاش الطفل ناعما سعيدا..
    وذات يوم تعرضت البلاد لهجوم الروم.. وأسر المغيرون أعدادا كثيرة وسبوا ذلك الغلام " صهيب بن سنان"..
    ويقتنصه تجار الرقيق، وينتهي طوافه الى مكة، حيث بيع لعبد الله بن جدعان، بعد أن قضى طفولته وشبابه في بلاد الروم، حتى أخذ لسانهم ولهجتهم.
    ويعجب سيده بذكائه ونشاطه وإخلاصه، فيعتقه ويحرره، ويهيئ له فرصة الاتجار معه.
    وذات يوم.. ولندع صديقه عمار بن ياسر يحدثنا عن ذلك اليوم:
    " لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها..
    فقلت له: ماذا تريد..؟
    فأجابني وما تريد أنت..؟
    قلت له: أريد أن أدخل على محمد، فأسمع ما يقول.
    قال: وأنا أريد ذلك..
    فدخلنا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا.
    ثم مكثنا على ذلك حتى أمسينا..
    ثم خرجنا ونحن مستخفيان".!
    عرف صهيب طريقه أذن الى دار الأرقم..
    عرف طريقه الى الهدى والنور، وأيضا الى التضحية الشاقة والفداء العظيم..
    فعبور الباب الخشبي الذي كان يفصل داخل دار الأرقم عن خارجها لم يكن يعني مجرّد تخطي عتبة.. بل كان يعني تخطي حدود عالم بأسره..!
    عالم قديم بكل ما يمثله من دين وخلق، ونظام وحياة..
    وتخطي عتبة دار الأرقم، التي لم يكن عرضها ليزيد عن قدم واحدة كان يعني في حقيقة الأمر وواقعه عبور خضمّ من الأهوال، واسع، وعريض..
    واقتحام تلك العتبة، كان إيذانا بعهد زاخر بالمسؤوليات الجسام..!
    وبالنسبة للفقراء، والغرباء، والرقيق، كان اقتحام عقبة دار الأرقم يعني تضحية تفوق كل مألوف من طاقات البشر.
    وان صاحبنا صهيبا لرجل غريب.. وصديقه الذي لقيه على باب الدار، عمّار بن ياسر رجل فقير.. فما بالهما يستقبلان الهول ويشمّران سواعدهما لملاقاته..؟؟
    انه نداء الإيمان الذي لا يقاوم..
    وإنها شمائل محمد عليه الصلاة والسلام، الذي يملؤ عبيرها أفئدة الأبرار هدى وحبا..
    وإنها روعة الجديد المشرق. تبهر عقولا سئمت عفونة القديم، وضلاله وإفلاسه..
    وإنها قبل هذا كله رحمة الله يصيب بها من يشاء.. وهداه يهدي إليه من ينيب...
    أخذ صهيب مكانه في قافلة المؤمنين..
    وأخذ مكانا فسيحا وعاليا بين صفوف المضطهدين والمعذبين..!!
    ومكانا عاليا كذلك بين صفوف الباذلين والمفتدين..
    وانه ليتحدث صادقا عن ولائه العظيم لمسؤولياته كمسلم بايع الرسول، وسار تحت راية الإسلام فيقول:
    " لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط الا كنت حاضره..
    ولم يبايع بيعة قط الا كنت حاضرها..
    ولا يسر سرية قط. الا كنت حاضرها..
    ولا غزا غزاة قط، أوّل الزمان وآخره، الا منت فيها عن يمينه أ، شماله..
    وما خاف المسلمون أمامهم قط، الا كنت أمامهم..
    ولا خافوا وراءهم الا كنت وراءهم..
    وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين العدو أبدا حتى لقي ربه"..!!
    هذه صورة باهرة، لإيمان فذ وولاء عظيم..
    ولقد كان صهيب رضي الله عنه وعن إخوانه أجمعين، أهلا لهذا الإيمان المتفوق من أول يوم استقبل فيه نور الله، ووضع يمينه في يمين الرسول..
    يومئذ أخذت علاقاته بالناس، وبالدنيا، بل وبنفسه، طابعا جديدا. يومئذ. امتشق نفسا صلبة، زاهدة متفانية. وراح يستقبل بها الأحداث فيطوّعها. والأهوال فيروّعها.
    ولقد مضى يواجه تبعاته في إقدام وجسور.ز فلا يتخلف عن مشهد ولا عن خطر.. منصرفا ولعه وشغفه عن الغنائم الى المغارم.. وعن شهوة الحياة، الى عشق الخطر وحب الموت..
    ولقد افتتح أيام نضاله النبيل وولائه الجليل بيوم هجرته، ففي ذلك اليوم تخلى عن كل ثروته وجميع ذهبه الذي أفاءته عليه تجارته الرابحة خلال سنوات كثيرة قضاها في مكة.. تخلى عن كل هذه الثروة وهي كل ما يملك في لحظة لم يشب جلالها تردد ولا نكوص.
    فعندما همّ الرسول بالهجرة، علم صهيب بها، وكان المفروض أن يكون ثالث ثلاثة، هم الرسول.. وأبو بكر.. وصهيب..
    بيد أن القرشيين كانوا قد بيتوا أمرهم لمنع هجرة الرسول..
    ووقع صهيب في بعض فخاخهم، فعوّق عن الهجرة بعض الوقت بينما كان الرسول وصاحبه قد اتخذا سبيلهما على بركة الله..
    وحاور صهيب وداور، حتى استطاع أن يفلت من شانئيه، وامتطى ظهر ناقته، وانطلق بها الصحراء وثبا..
    بيد أن قريشا أرسلت في أثره قناصتها فأدركوه.. ولم يكد صهيب يراهم ويواجههم من قريب حتى صاح فيهم قائلا:
    " يا معشر قريش..
    لقد علمتم أني من أرماكم رجلا.. وأيم والله لا تصلون إلي حتى ارمي كبل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي حتى لا يبقى في يدي منه شيء، فأقدموا ان شئتم..
    وان شئتم دللتكم على مالي، وتتركوني وشاني"..
    ولقد استاموا لأنفسهم، وقبلوا أن يأخذوا ماله قائلين له:
    أتيتنا صعلوكا فقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت بيننا ما بلغت، والآن تنطلق بنفسك وبمالك..؟؟
    فدلهم على المكان الذي خبأ فيه ثروته، وتركوه وشأنه، وقفلوا الى مكة راجعين..
    والعجب أنهم صدقوا قوله في غير شك، وفي غير حذر، فلم يسألوه بيّنة.. بل ولم يستحلفوه على صدقه..!! وهذا موقف يضفي على صهيب كثيرا من العظمة يستحقها كونه صادق وأمين..!!
    واستأنف صهيب هجرته وحيدا سعيدا، حتى أردك الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء..
    كان الرسول جالسا وحوله بعض أصحابه حين أهل عليهم صهيب ولم يكد يراه الرسول حتى ناداه متهللا:
    " ربح البيع أبا يحيى..!!
    ربح البيع أبا يحيى..!!
    وآنئذ نزلت الآية الكريمة:
    بسم الله الرحمن الرحيم
    ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله رؤوف بالعباد(
    صدق الله العظيم
    أجل لقد اشترى صهيب نفسه المؤمنة ابتغاء مرضات الله بكل ثروته التي أنفق شبابه في جمعها، ولم يحس قط أنه المغبون..
    فمال المال، وما الذهب وما الدنيا كلها، إذا بقي له إيمانه، وإذا بقيت لضميره سيادته.. ولمصيره إرادته..؟؟
    كان الرسول يحبه كثيرا.. وكان صهيب الى جانب ورعه وتقواه، خفيف الروح، حاضر النكتة..
    رآه الرسول يأكل رطبا، وكان بإحدى عينيه رمد..
    فقال له الرسول ضاحكا:" أتأكل الرطب وفي عينيك رمد"..؟
    فأجاب قائلا:" وأي بأس..؟ إني آكله بعيني الأخرى!!
    وكان جوّادا معطاء.. ينفق كل عطائه من بيت المال في سبيل الله، يعين محتاجا.. يغيث مكروبا.." ويطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا".
    حتى لقد أثار سخاؤه المفرط انتباه عمر فقال له: أراك تطعم كثيرا حتى انك لتسرف..؟
    فأجابه صهيب لقد سمعت رسول الله يقول:
    " خياركم من أطعم الطعام".
    ولئن كانت حياة صهيب مترعة بالمزايا والعظائم، فان اختيار عمر بن الخطاب إياه ليؤم المسلمين في الصلاة مزية تملأ حياته ألفة وعظمة..
    فعندما اعتدي على أمير المؤمنين وهو يصلي بالمسلمين صلاة الفجر..
    وعندما أحس نهاية الأجل، فراح يلقي على أصحابه وصيته وكلماته الأخيرة قال:
    " وليصلّ بالناس صهيب"..
    لقد اختار عمر يومئذ ستة من الصحابة، ووكل إليهم أمر الخليفة الجديد..
    وخليفة المسلمين هو الذي يؤمهم في الصلاة، ففي الأيام الشاغرة بين وفاة أمير المؤمنين، واختيار الخليفة الجديد، من يؤم المسلمين في الصلاة..؟
    ان عمر وخاصة في تلك اللحظات التي تأخذ فيها روحه الطاهرة طريقها الى الله ليستأني ألف مرة قبل أن يختار.. فإذا اختار، فلا أحد هناك أوفر حظا ممن يقع عليه الاختيار..
    ولقد اختار عمر صهيبا..
    اختاره ليكون إمام المسلمين في الصلاة حتى ينهض الخليفة الجديد.. بأعباء مهمته..
    اختاره وهو يعلم أن في لسانه عجمة، فكان هذا الاختيار من تمام نعمة الله على عبده الصالح صهيب بن سنان..


  3. #3

    • كريم يحيى
    • Guest

    افتراضي خالد بن الوليد سيف الله المسلول

    خالد بن الوليد قائد إسلامي عظيم كان من المجاهدين المسلمين الذين عاصروا الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام وأطلق الرسول عليه لقب سيف الله المسلول، كانت بدايته في الجاهلية حتى من الله سبحانه وتعالى عليه بنعمة الهداية، فدخل إلى الإسلام بعد غزوة الأحزاب، وبعد إسلامه قاتل بسيفه أعداءه من المشركين والمنافقين كان قائداً حربياً لا يشق له غبار، وتولى قيادة الجيش الإسلامي في العديد من المعارك الهامة والتي كللت بالنصر من عند الله.

    قال عنه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام " ما مثل خالد من جهل الإسلام ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين لكان خيراً له ولقدمناه على غيره"، وبعد الإسلام قال عليه الصلاة والسلام" الحمد لله الذي هداك ، لقد كنت أرى لك عقلاً رجوت أن لا يسلمك إلا إلى خير" .



    النشأة

    هو خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي، أبو سليمان، ولد عام 584 م لعائلة رفيعة النسب فكان والده الوليد بن المغيرة أحد أشراف وأثرياء قريش، تدرب خالد منذ الصغر على الفروسية وأظهر فيها الكثير من البراعة حتى أصبح فارساً عظيماً لا يشق له غبار، فكان واحداً من ألمع قادة فرسان قريش، كما تولي مهمة "القبة والأعنة" وراثة عن أبيه.

    حارب خالد بن الوليد أولاً ضمن صفوف المشركين ضد المسلمين فخاض عدد من الغزوات ضد المسلمين كأحد القادة المشركين المعادين للإسلام، بل لقد كان صاحب الفضل في تحويل نصر المسلمين في غزوة أحد إلى هزيمة بعد أن هاجم الجيش الإسلامي من الخلف وذلك بعد أن تخلى الرماة عن مواقعهم، وقاتل قتالاً شرساً ضد المسلمين هذا إلى النقيض تماماً مما حدث بعد إسلامه فقد قاتل بعد ذلك في سبيل الله قتالاً رائعاً استبسل فيه واستدعى جميع مهاراته كفارس فكانت له العديد من الانتصارات والبطولات في المعارك التي خاضها لصالح المسلمين.



    إسلامه

    قام بإعلان إسلامه في العام الثامن للهجرة وذلك قبل فتح مكة بستة أشهر وقبل غزوة مؤتة بنحو شهرين، وقد أعلن إسلامه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل من عمرو بن العاص وعثمان بن طلحة، ومنذ أن أعلن إسلامه لم يرفع خالد بن الوليد سيفه قط سوى لنصرة الإسلام والمسلمين فكان نعم القائد والفارس الشجاع الذي مكنه الله من تسليط سيفه على رقاب المشركين فكان يعود له هذا السيف بالنصر والعزة للإسلام، وقد أطلق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقب " سيف الله المسلول"، مما قاله رسول الله عن إسلامه " الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلا لا يسلمك إلا إلى الخير".



    دوره كقائد إسلامي

    كانت أولى الغزوات التي شارك فيها خالد بعد إسلامه غزوة مؤتة التي كانت بين كل من المسلمين والغساسنة والروم، وقد أظهر الكثير من البراعة والحنكة القتالية في هذه الغزوة وقاد الجيش المسلم بعد أن سقط أمرائه الثلاثة زيد بن حارثة وجعفر وعبد الله بن رواحة في المعركة، وقد استبسل في هذه المعركة حتى أنه دقت في يده تسعة سيوف أثناء القتال.

    وقد شارك أيضاً في فتح مكة فقد ولاه الرسول عليه الصلاة والسلام على واحدة من الكتائب الإسلامية التي ذهبت للفتح، كما كانت له العديد من المشاركات الأخرى فشارك في حروب الردة التي شنها أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة الرسول على المرتدين والمنافقين، فقام أبو بكر بتوكيل مهمة ردع هؤلاء المرتدين لخالد بن الوليد الذي أبلى خير البلاء في هذه المهمة وكان على رأس هؤلاء المرتدين طليحة بن خويلد، مسيلمة بن ثمامة أو الكذاب واللذان أدعيا النبوة، فلقد ارتد طليحة وقام بادعاء النبوة والتف حوله قبيلة بني أسد فسار إليه خالد ودحره هو ورجاله فعاد إلي الإسلام، كما ارتد مسيلمة وادعى النبوة والتفت حوله قبيلة بني حنيفة فسار خالد إليهم أيضاً وكانت من اكبر المعارك التي خاضها المسلمون في حروب الردة وأنتصر خالد وقتل مسيلمة .

    قام الخليفة أبو بكر الصديق بتولية خالد على أجناد العراق وذلك من أجل قتال الفرس فأستبسل خالد في قتال الفرس هو وجنود المسلمين وظل يقاتلهم حتى أبادهم، فشهدت ارض العراق تحقيق انتصارات مذهلة لجيش المسلمين تحت قيادة خالد بن الوليد لهم وقام بالسيطرة على أجزاء كبيرة من بلاد فارس.

    من المعارك الهامة أيضاً التي قام خالد بقيادة الجيش فيها معركة اليرموك والتي وقعت ضد جيش الروم فقد اظهر فيها خالد الكثير من موهبته القيادية والقتالية على حد سواء، فقام بتوحيد جيوش المسلمين لتصبح قوة واحدة في وجه الجيش الرومي، وتقاسم الإمارة مع غيره من القادة الأكفاء فاتفق معهم على أن يتولى أمارة الجيش كل يوم واحداً منهم، وبدأ بنفسه فاظهر الكثير من المهارة والاستبسال.

    وفي هذه المعركة مع جيوش الروم خرج جرجة أحد القادة الروم لمبارزة خالد وعندما خرج خالد لمبارزته سأله القائد الرومي قائلا: هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء فأعطاكه فلا تسله على قوم إلا هزمتهم

    قال خالد : لا

    قال جرجة: فيم سميت سيف الله ؟

    قال خالد : إن الله عز وجل بعث فينا نبيه محمد عليه الصلاة والسلام فنفرنا عنه ونأينا عنه جميعاً ثم إن بعضنا صدقه وتابعه وبعضنا باعده وكذبه فكنت فيمن كذبه وباعده وقاتله ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به فتبعناه.

    فقال عليه السلام أنت سيف من سيوف الله سله على المشركين ودعا لي بالنصر فسميت سيف الله بذلك، فأنا من أشد المسلمين على المشركين.

    قال جرجة: صدقتني فأخبرني إلام تدعوني .

    قال خالد : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله والإقرار بما جاء به من عند الله.

    قال جرجة : فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم.

    قال خالد : منزلتنا واحدة فما افترض الله علينا شريفنا ووضيعنا وأولنا وأخرنا، فأنقلب جرجة إلى صف خالد وقال له : علمني الإسلام وأخذه خالد إلي خيمته وأتاه بماء ليتطهر ثم لقنه الشهادتين وخرجا معاً يقاتلان الروم .



    أخلاق الفارس

    توفى أبو بكر الصديق رضي الله عنه واستخلف عمر بن الخطاب مكانه خليفة للمسلمين، ولما علم خالد بذلك لم يخبر احد حتى لا يحدث توتر وهرج في صفوف المسلمين، ومضي يضرب بسيفه يميناً ويساراً في صفوف الروم ويستحث الرجال على الإقدام والقتال حتى تحقق النصر للمسلمين وتقهقر جيش الروم مهزوماً مخذولاً.

    وبعد وفاة أبي بكر وتولي عمر الخلافة أمر بتولية أبي عبيدة بن الجراح إمارة جيش المسلمين بدلاً من خالد بن الوليد، وعلى الرغم من هذا لم يقابل خالد هذا الأمر بالغضب أو الضيق بل سلم أبي عبيدة قيادة الجيش كما أُمر وهذا إن دل فإنما يدل على أخلاق عظيمة تمتع بها هذا الفارس المسلم العظيم الذي كان دائماً يؤثر رفعة الإسلام ونصره وإطاعة الخليفة عن أي أطماع شخصية قد تطول غيره، وبعد أن تسلم أبي عبيدة قيادة الجيش قاتل خالد بن الوليد في جيش المسلمين كجندي مخلص ينفذ أوامر قائده.



    وفاة الفارس


    توفى خالد بن الوليد عام 642م هذا البطل، والفارس المسلم الذي أسلم بعد أن كان مشركاً فأمن بالله والرسول ورفع سيفه من أجل نصرتهم فكان سيفه يرد إليه بالنصر وعلى الرغم من كثرة الحروب التي خاضها إلا أن وفاته لم تكن في أي من هذه المعارك بل جاءته وهو في فراشه وقال في هذا "ما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء".

    رحم الله خالد بن الوليد ورضي عنه وعن غيره من المسلمين الذين لم يدخروا جهداً من أجل نصرة دينهم والدفاع عنه، وجزاه خير الجزاء عن المسلمين.

  4. #4

    • كريم يحيى
    • Guest

    افتراضي أعظم رجال البشر صلابة ( عمر بن الخطاب )

    كان عمر بن الخطاب، إذا ذكر أبو بكر قال:أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا"..
    يعني بلالا رضي الله عنه..وان رجلا يلقبه عمر بسيدنا هو رجل عظيم ومحظوظ..لكن هذا الرجل الشديد السمرة، النحيف الناحل، المفرط الطول الكث الشعر، الخفيف العارضين، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه إليه، وتغدق عليه، الا ويحني رأسه ويغض طرفه، ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل:"إنما أنا حبشي.. كنت بالأمس عبدا"..!!
    فمن هذا الحبشي الذي كان بالأمس عبدا..!!
    انه "بلال بن رباح" مؤذن الإسلام، ومزعج الأصنام.. انه إحدى معجزات الإيمان والصدق.إحدى معجزات الإسلام العظيم..
    في كل عشرة مسلمين. منذ بدأ الإسلام الى اليوم، والى ما شاء الله سنلتقي بسبعة على الأقل يعرفون بلالا..
    أي أن هناك مئات الملايين من البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا، وحفظوا اسمه، وعرفوا دوره. تماما كما عرفوا أعظم خليفتين في الإسلام: أبي بكر وعمر...!!
    وانك لتسأل الطفل الذي لا يزال يحبو في سنوات دراسته الأولى في مصر، أ، باكستان، أ، الصين..
    وفي الأمريكيتين، وأوروبا وروسيا..
    وفي العراق ، وسوريا، وإيران والسودان..
    في تونس والمغرب والجزائر..
    في أعماق أفريقيا، وفوق هضاب آسيا..
    في كل بقعة من الأرض يقتنها مسلمون، تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم: من بلال يا غلام؟
    فيجيبك: انه مؤذن الرسول.. وانه العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة المستعرّة ليردّه عن دينه، فيقول:"أحد.. أحد.."
    وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الإسلام بلالا.. فاعلم أن بلال هذا، لم يكن قبل الإسلام أكثر من عبد رقيق، يرعى ابل سيّده على حفنات من التمر، حتى يطو به الموت، ويطوّح به الى أعماق النسيان..
    لكن صدق إيمانه، وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته، وفي تاريخه مكانا عليّا في الإسلام بين العظماء والشرفاء والكرماء...
    ان كثيرا من عليّة البشر، وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم، لم يظفروا
    بمعشار الخلود الذي ظفر به بلال العبد الحبشي..!!
    بل ان كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلال..
    ان سواد بشرته، وتواضع حسبه ونسبه، وهوانه على الانس كعبد رقيق، لم يحرمه حين آثر الإسلام دينا، من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه ويقينه، وطهره، وتفانيه..
    ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب، الا حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير مظانها..
    فلقد كان الناس يظنون أن عبدا مثل بلال، ينتمي الى أصول غريبة.. ليس له أهل، ولا حول، ولا يملك من حياته شيئا، فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله.. يروح ويغدو وسط شويهات سيده وإبله وماشيته..
    كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن، لا يمكن أن يقدر على شيء ولا أن يكون شيئا..ثم إذا هو يخلف الظنون جميعا، فيقدر على إيمان، هيهات أن يقدر على مثله سواه.. ثم يكون أول مؤذن للرسول والإسلام العمل الذي كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول..!!أجل.. بلال بن رباح!
    أيّة بطولة.. وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح..؟!
    انه حبشي من أمة السود... جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة، حيث كانت أمه إحدى أمائهم وجواريهم..
    كان يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه، ولا أمل له في غده..!!
    ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه، حين أخذ الانس في مكة يتناقلونها، وحين كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم، سيما "أمية بن خلف" أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها..
    لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا، وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا، وغمّا وشرا..
    وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون، الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها.. كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الواعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته..!!
    أجل انه ليسمعهم يعجبون، ويحارون، في هذا الذي جاء به محمد..!!
    ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد يوما كاذبا. ولا ساحرا..ولا مجنونا.. وان أم يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله، حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون الى دينه..!!
    سمعهم يتحدّثون عن أمانته..
    عن وفائه..
    عن رجولته وخلقه..
    عن نزاهته ورجاحة عقله..
    وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديّ وعداوته، تلك هي: ولاؤهم لدين آبائهم أولا. والخوف على مجد قريش ثانيا، ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني، كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها، ثم الحقد على بني هاشم، أن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول...!
    وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله، ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه، فيذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلم..
    ولا يلبث خبر إسلامه أن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في إسلام عبد من عبيدهم لطمه جللتهم جميعا بالخزي والعار..عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد..؟!
    ويقول أميّة لنفسه: ومع هذا فلا بأس.. ان شمس هذا اليوم لن تغرب الا ويغرب معها إسلام هذا العبد الآبق..!!
    ولكن الشمس لم تغرب قط بإسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها، وحماة الوثنية فيها...!
    أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للإسلام وحده، وان كان الإسلام أحق به، ولكنه شرف للإنسانية جميعا..
    لقد صمد لأقسى ألوان التعذيب صمود الأبرار العظام.
    ولكأنما جعله الله مثلا على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من عظمة الروح إذا وجدت إيمانها، واعتصمت بباريها، وتشبثت بحقها..
    لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه، وفي كل مان، للذين على دينه وعلى كل دين.. درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا، ولا بملئها عذابا..
    لقد وضع عريانا فوق الجمر، على أن يزيغ عن دينه، أو يزيف اقتناعه فأبى..
    لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام، والإسلام، من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير، والدفاع عن حريته وسيادته..

    لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها الملتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال، ويلقون به فوق جسده وصدره..
    ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله، على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم وإصراره..
    ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه، ويشتري بها حياته نفسه، دون أن يفقد إيمانه، ويتخلى عن اقتناعه..
    حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال أن يقولها..!
    نعم لقد رفض أن يقولها، وصار يردد مكانها نشيده الخالد:"أحد أحد"
    يقولون له: قل كما نقول..
    فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية:
    "ان لساني لا يحسنه"..!!
    ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره، حتى إذا حان الأصيل أقاموه، وجعلوا في عنقه حبلا، ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها. وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس:" أحد أحد".
    وكأني إذا جنّ عليهم الليل يساومونه:
    غدا قل كلمات خير في آلهتنا، قل ربي اللات والعزى، لنذرك وشأتك، فقد تعبنا من تعذيبك، حتى لكأننا نحن المعذبون!
    فيهز رأسه ويقول:" أحد.. أحد..".
    ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا وغيظا، ويصيح: أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء ؟ واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا.
    ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس:
    "أحد.. أحد.."
    ويعود للحديث والمساومة، من وكل إليه تمثيل دور المشفق عليه، فيقول:
    خل عنك يا أميّة.. واللات لن يعذب بعد اليوم، ان بلالا منا أمه جاريتنا، وانه لن يرضى أن يجعلنا بإسلامه حديث قريش وسخريّتها..
    ويحدّق بلال في الوجوه الكاذبة الماكرة، ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر، ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا:
    "أحد.. أحد.."
    وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة، ويؤخذ بلال الى الرمضاء، وهو صابر محتسب، صامد ثابت.
    ويذهب إليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه، ويصيح بهم:
    (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)؟؟
    ثم يصيح في أميّة بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا..
    وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة..
    لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره إذ كان اليأس من تطويع قلبه قد بلغ في نفوسهم أشده، ولأنهم كانوا من التجار، فقد أدركوا أن بيعه أربح لهم من موته..
    باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره، وأخذ بلال مكانه بين الرجال الأحرار...
    وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به الى الحرية قال له أمية:
    خذه، فواللات والعزى، لو أبيت الا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتك بها..
    وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا بألا يجيبه..
    ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له، وندّا،أجاب أمية قائلا:
    والله لو أبيتم أنتم الا مائة أوقية لدفعتها..!!
    وانطلق بصاحبه الى رسول الله يبشره بتحريره.. وكان عيدا عظيما!
    وبعد هجرة الرسول والمسلمين الى المدينة، واستقرارهم بها، يشرّع الرسول للصلاة أذانها..
    فمن يكون المؤذن للصلاة خمس مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته؟
    انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: "الله أحد..أحد".
    لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للإسلام.
    وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ الأفئدة إيمانا، والأسماع روعة وهو ينادى:
    الله أكبر.. الله أكبر
    الله أكبر .. الله أكبر
    أشهد أن لااله الا الله
    أشهد أن لا اله الا الله
    أشهد أن محمدا رسول الله
    أشهد أن محمدا رسول الله
    حي على الصلاة
    حي على الصلاة
    حي على الفلاح
    حي على الفلاح
    الله أكبر.. الله أكبر
    لا اله الا الله...
    ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم الى المدينة غازيا..
    وتدور الحرب عنيفة قاسية ضارية..وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الإسلام، غزوة بدر.. تلك الغزوة التي أمر الرسول عليه السلام أن يكون شعارها: "أحد..أحد".
    في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ أكبادها، وخرج أشرافها جميعا لمصارعهم..!!
    ولقد همّ بالنكوص عن الخروج "أمية بن خلف" .. هذا الذي كان سيدا لبلال، والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة..
    همّ بالنكوص لولا أن ذهب إليه صديقه "عقبة بن أبي معيط" حين علم عن نبأ تخاذله وتقاعسه، حاملا في يمينه مجمرة حتى إذا واجهه وهو جالس وسط قومه، ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي، استجمر بهبذ، فانما أنت من النساء..!!!
    وصاح به أمية قائلا: قبحك الله، وقبّح ما جئت به..
    ثم لم يجد بدّا من الخروج مع الغزاة فخرج..
    أيّة أسرار للقدر، يطويها وينشرها..؟
    لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر مشجع لأمية على تعذيب بلال، وغير بلال من المسلمين المستضعفين..
    واليوم هو نفسه الذي يغريه بالخروج الى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه..!!
    كما سيكون فيها مصرع عقبة أيضا!
    لقد كان أمية من القاعدين عن الحرب.. ولولا تشهير عقبة به على هذا النحو الذي رأيناه لما خرج..!!
    ولكن الله بالغ أمره، فليخرج أمية فان بينه وبين عبد من عباد الله حسابا قديما، جاء أوان تصفيته، فالديّان لا يموت، وكما تدينون تدانون..!!

    وان القدر ليحلو له أن يسخر بالجبارين.. فعقبة الذي كان أمية يصغي لتحريضه، ويسارع اى هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء، هو نفسه الذب سيقود أميّة الى مصرعه..
    وبيد من..؟
    بيد بلال نفسه.. وبلال وحده!!
    نفس اليد التي طوّقها أميّة بالسلاسل، وأوجع صاحبها ضربا، وعذابا..
    مع هذه اليد ذاتها، هي اليوم، وفي غزوة بدر، على موعد أجاد القدر توقيته، مع جلاد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا وعدوا..
    ولقد حدث هذا تماما..
    وحين بدأ القتال بين الفريقين، وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين بشعارهم:" أحد.. أحد" انخلع قلب أمية، وجاءه النذير..
    ان الكلمة التي كان يرددها بالأمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم شعار دين بأسره وشعار الأمة الجديدة كلها..!!
    "أحد..أحد"؟؟!!
    أهكذا..؟ وبهذه السرعة.. وهذا النمو العظيم..؟؟
    وتلاحمت السيوف وحمي القتال..
    وبينما المعركة تقترب من نهايتها، لمح أمية بن خلف" عبد الرحمن بن عوف" صاحب رسول الله، فاحتمى به، وطلب إليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته..
    وقبل عبد الرحمن عرضه وأجاره، ثم سار به وسط العمعمة الى مكان السري.
    وفي الطريق لمح بلال فصاح قائلا:
    "رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت ان نجا".
    ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي لطالما أثقله الغرور والكبر، فصاح به عبد الرحمن بن عوف:
    "أي بلال.. انه أسيري".
    أسير والحرب مشبوبة دائرة..؟
    أسير وسيفه يقطر دما مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين..؟
    لا.. ذلك في رأي بلال ضحك بالعقول وسخرية.. ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه الكفاية..
    سخر حتى لم يترك من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم، وهذا المأزق، وهذا المصير..!!
    ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن عوف، فصاح بأعلى صوته في المسلمين:
    "يا أنصار الله.. رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت ان نجا"...!
    وأقبلت كوكبة من المسلمين تقطر سيوفهم المنايا، وأحاطت بأمية وابنه ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئا.. بل لم يستطع أن يحمي أذراعه التي بددها الزحتم.
    وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة، ثم هرول عنه مسرعا وصوته النديّ يصيح:
    "أحد.. أحد.."
    لا أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا المقام..
    فلو أن اللقاء بين بلال وأمية تمّ في ظروف أخرى، لجازنا أن نسال بلالا حق التسامح، وما كان لرجل في مثل إيمانه وتقاه أن يبخل به.
    لكن اللقاء الذي تم بينهما، كان في حرب، جاءها كل فريق ليفني غريمه..
    السيوف تتوهج.. والقتلى يسقطون.. والمنايا تتواثب، ثم يبصر بلال أمية الذي لم يترك في جسده موضع أنملة الا ويحمل آثار تعذيب.
    وأين يبصره وكيف..؟
    يبصره في ساحة الحرب والقتال يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين، ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ لطوّح به..
    في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها، لا يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل بلالا: لماذا لم يصفح الصفح الجميل..؟؟
    وتمضي الأيام وتفتح مكة..
    ويدخلها الرسول شاكرا مكبرا على رأس عشرة آلاف من المسلمين..
    ويتوجه الى الكعبة رأسا.. هذا المكان المقدس الذي زحمته قريش بعدد أيام السنة من الأصنام..!!
    لقد جاء الحق وزهق الباطل..
    ومن اليوم لا عزى.. ولا لات.. ولا هبل.. لن يجني الإنسان بعد اليوم هامته لحجر، ولا وثن.. ولن يعبد الناس ملء ضمائرهم الا الله الذي ليس كمثله شيء، الواحد الأحد، الكبير المتعال..
    ويدخل الرسول الكعبة، مصطحبا معه بلال..!
    ولا يكاد يدخلها حتى يواجه تمثالا منحوتا، يمثل إبراهيم عليه السلام وهو يستقسم بالأزلام، فيغضب الرسول ويقول:
    "قاتلهم الله..
    ما كان شيخنا يستقسم بالأزلام.. ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين".
    ويأمر بلال أن يعلو ظهر المسجد، ويؤذن.
    ويؤذن بلال.. فيالروعة الزمان، والمكان، والمناسبة..!!
    كفت الحياة في مكة عن الحركة، ووقفت الألوف المسلمة كالنسمة الساكنة، تردد في خشوع وهمس كلمات الآذان وراء بلال.
    والمشركون في بيوتهم لا يكادون يصدقون:
    أهذا هو محمد وفقراؤه الذين أخرجوا بالأمس من هذا الديار..؟؟
    أهذا هو حقا، ومعه عشرة آلاف من المؤمنين..؟؟
    أهذا هو حقا الذي قاتلناه، وطاردنه، وقتلنا أحب الناس إليه..؟
    أهذا هو حقا الذي كان يخاطبنا من لحظات ورقابنا بين يديه، ويقول لنا:
    "اذهبوا فأنتم الطلقاء"..!!
    ولكن ثلاثة من أشراف قريش، كانوا جلوسا بفناء الكعبة، وكأنما يلفحهم مشهد بلال وهو يدوس أصنامهم بقدميه، ويرسل من فوق ركامها المهيل صوته بالأذان المنتشر في آفاق مكة كلها كعبير الربيع..
    أما هؤلاء الثلاثة فهم، أبو سفيان بن حرب، وكان قد أسلم منذ ساعات، وعتّاب بن أسيد، والحارث بن هشام، وكانا لم يسلما بعد.
    قال عتاب وعينه على بلال وهو يصدح بأذانه:
    لقد أكرم الله اسيدا، ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث:
    أما والله لو أعلم أن محمدا محق لاتبعته..!!
    وعقب أبو سفيان الداهية على حديثهما قائلا:
    إني لا أقول شيئا، فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى!! وحين غادر النبي الكعبة رآهم، وقرأ وجوههم في لحظة، قال وعيناه تتألقان بنور الله، وفرحة النصر:
    قد علمت الذي قلتم..!!!
    ومضى يحدثهم بما قالوا..
    فصاح الحارث وعتاب:
    نشهد أنك رسول الله، والله ما سمعنا أحد فنقول أخبرك..!!
    واستقبلا بلال بقلوب جديدة..في أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب الرسول أول دخول مكة:
    " يامعشر قريش..
    ان الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء..
    الناس من آدم وآدم من تراب"..
    وعاش بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشهد معه المشاهد كلها، يؤذن للصلاة، ويحيي ويحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات الى النور، ومن الرق الى الحريّة..
    وعلا شأن الإسلام، وعلا معه شأن المسلمين، وكان بلال يزداد كل يوم قربا من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصفه بأنه:" رجل من أهل الجنة"..
    لكن بلالا بقي كما هو كريما متواضعا، لا يرى نفسه الا أنه:" الحبشي الذي كان بالأمس عبدا"..!!
    ذهب يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما:
    "أنا بلال، هذا أخي عبدان من الحبشة.. كنا ضالين فهدانا الله.. ومنا عبدين فأعتقنا الله.. ان تزوّجونا فالحمد لله.. وان تمنعونا فالله أكبر.."!!
    وذهب الرسول الى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا، ونهض بأمر المسلمين من بعده خليفته أبو بكر الصديق..
    وذهب بلال الى خليفة رسول الله يقول له:
    " يا خليفة رسول الله..
    إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفضل عمل للمؤمن الجهاد في سبيل الله"..
    فقال له أبو بكر: فما تشاء يا بلال..؟
    قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت..
    قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟
    قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع، إني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله.
    قال أبو بكر: بل ابق وأذن لنا يا بلال..
    قال بلال: ان كنت أعتقتني لأكون لك فليكن لك ما تريد. وان كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له..
    قال أبو بكر: بل أعتقتك لله يا بلال..
    ويختلف الرواة، فيروي بعضهم أنه سافر الى الشام حيث بقي فيها مجاهدا مرابطا.
    ويروي بعضهم الآخر، أنه قبل رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة، فلما قبض وولي عمر الخلافة استأذنه وخرج الى الشام.
    على أية حال، فقد نذر بلال بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور الإسلام، مصمما أن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يحبانه.
    ولم يعد يصدح بالأذان بصوته الشجي الحفيّ المهيب، ذلك أنه لم ينطق في أذانه "أشهد أن محمدا رسول الله" حتى تجيش به الذمؤيات فيختفي صوته تحت وقع أساه، وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته.
    وكان آخر أذان له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون إليه أن يحمل بلالا على أن يؤذن لهم صلاة واحدة.
    ودعا أمير المؤمنين بلال، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها.
    وصعد بلال وأذن.. فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن له.. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا.. وكان عمر أشدهم بكاء..!!
    ومات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد.
    وتحت ثرى دمشق يثوي اليوم رفات رجل من أعظم رجال البشر صلابة في الوقوف الى جانب العقيدة والاقتناع...

  5. #5

    • كريم يحيى
    • Guest

    افتراضي البراء بن مالك

    البراء بن مالك

    هو ثاني أخوين عاشا في الله، وأعطيا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا نكا وأزهر مع الأيام..
    أما أولهما فهو أنس بن مالك خادم رسول الله عليه السلام.
    أخذته أمه أم سليم الى الرسول عليه الصلاة والسلام وعمره يوم ذاك عشر سنين وقالت:
    "يا رسول الله..
    هذا أنس غلامك يخدمك، فادع الله له"..
    فقبّله رسول الله عليه الصلاة والسلام بين عينيه ودعا له دعوة ظلت تحدو عمره الطويل نحو الخير والبركة..
    دعا له الرسول عليه الصلاة والسلام فقال:
    " اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له، وأدخله الجنة"..
    فعاش تسعا وتسعين سنة، ورزق من البنين والحفدة كثيرين، كما أعطاه الله فيما أعطاه من رزق، بستانا رحبا ممرعا، كان يحمل الفاكهة في العام مرتين..!!
    وثاني الأخوين، هو البراء بن مالك..
    عاش حياته العظيمة المقدامة، وشعاره:
    " الله، والجنة"..
    ومن كان يراه، وهو يقاتل في سبيل الله، كان يرى عجبا يفوق العجب..
    فلم يكن البراء حين يجاهد المشركين بسيفه ممن يبحثون عن النصر، وان يكن النصر آنئذ أجلّ غاية.. إنما كان يبحث عن الشهادة..
    كانت كل أمانيه، أن يموت شهيدا، ويقضي نحبه فوق أرض معركة مجيدة من معارك الإسلام والحق..
    من أجل هذا، لم يتخلف عن مشهد ولا غزوة..
    وذات يوم ذهب إخوانه يعودونه، فقرأ وجوههم ثم قال:
    " لعلكم ترهبون أن أموت على فراشي..
    لا والله، لن يحرمني ربي الشهادة"..!!
    ولقد صدّق الله ظنه فيه، فلم يمت البراء على فراشه، بل مات شهيدا في معركة من أروع معارك الإسلام..!!
    ولقد كانت بطولة البراء يوم اليمامة خليقة به.. خليقة بالبطل الذي كان عمر بن الخطاب يوصي ألا يكون قائدا أبدا، لأن جسارته وإقدامه، وبحثه عن الموت.. كل هذا يجعل قيادته لغيره من المقاتلين مخاطرة تشبه الهلاك..!!

    وقف البراء يوم اليمامة وجيوش الإسلام تحت أمرة خالد تتهيأ للنزال، وقف يتلمظ مستبطئا تلك اللحظات التي تمرّ كأنها السنين، قبل أن يصدر القائد أمره بالزحف..

    وعيناه الثاقبتان تتحركان في سرعة ونفاذ فوق أرض المعركة كلها، كأنهما تبحثان عن أصلح مكان لمصرع البطل..!!

    أجل فما كان يشغله في دنياه كلها غير هذه الغاية..
    حصاد كثير يتساقط من المشركين دعاة الظلام والباطل بحدّ سيفه الماحق..

    ثم ضربة تواتيه في نهاية المعركة من يد مشركة، يميل على أثرها جسده الى الأرض ، على حين تأخذ روحه طريقها الى الملأ الأعلى في عرس الشهداء، وأعياد المباركين..!!
    ونادي خالد: الله أكبر، فانطلقت الصفوف المرصوصة الى مقاديرها، وانطلق معها عاشق الموت البراء بن مالك..

    وراح يجندل أتباع مسيلمة الكذاب بسيفه.. وهم يتساقطون كأوراق الخريف تحت وميض بأسه..
    لم يكن جيش مسيلمة هزيلا، ولا قليلا.. بل كان أخطر جيوش الردة جميعا..
    وكان بأعداده، وعتاده، واستماتة مقاتليه، خطرا يفوق كل خطر..
    ولقد أجابوا على هجوم المسلمين شيء من الجزع. وانطلق زعماؤهم وخطباؤهم يلقون من فوق صهوات جيادهم كلمات التثبيت. ويذكرون بوعد الله..
    وكان البراء بن مالك جميل الصوت عاليه..

    وناداه القائد خالد تكلم يا براء..
    فصاح البراء بكلمات تناهت في الجزالة، والدّلالة، القوة..
    تلك هي:
    " يا أهل المدينة..
    لا مدينة لكم اليوم..
    إنما هو الله والجنة"..
    كلمات تدل على روح قائلها وتنبئ بخصاله.
    أجل..
    إنما هو الله، والجنة..!!
    وفي هذا الموطن، لا ينبغي أن تدور الخواطر حول شيء آخر..
    حتى المدينة، عاصمة الإسلام، والبلد الذي خلفوا فيه ديارهم ونساءهم وأولادهم، لا ينبغي أن يفكروا فيها، لأنهم إذا هزموا اليوم، فلن تكون هنالك مدينة..
    وسرت كلمات البراء مثل.. مثل ماذا..؟
    إن أي تشبيه سيكون ظلما لحقيقة أثرها وتأثيرها..
    فلنقل: سرت كلمات البراء وكفى..
    ومضى وقت وجيز عادت بعده المعركة الى نهجها الأول..
    المسلمون يتقدمون، يسبقهم نصر مؤزر.
    والمشركون يتساقطون في حضيض هزيمة منكرة..
    والبراء هناك مع إخوانه يسيرون لراية محمد صلى الله عليه وسلم الى موعدها العظيم..
    واندفع المشركون الى وراء هاربين، واحتموا بحديقة كبيرة دخلوها ولاذوا بها..
    وبردت المعركة في دماء المسلمين، وبدا أن في الأمان تغير مصيرها بهذه الحيلة التي لجأ إليها أتباع مسيلمة وجيشه..
    وهنا علا البراء ربوة عالية وصاح:
    " يا معشر المسلمين..
    احملوني وألقوني عليهم في الحديقة"..
    ألم أقل لكم انه لا يبحث عن النصر بل عن الشهادة..!!
    ولقد تصوّر في هذه الخطة خير ختام لحياته، وخير صورة لمماته..!!
    فهو حين يقذف به الى الحديقة، يفتح المسلمين بابها، وفي نفس الوقت كذلك تكون أبواب الجنة تأخذ زينتها وتتفتح لاستقبال عرس جديد ومجيد..!!
    ولم ينتظر البراء أن يحمله قومه ويقذفوا به، فاعتلى هو الجدار، وألقى بنفسه داخل الحديقة وفتح الباب، واقتحمته جيوش الإسلام..
    ولكن حلم البراء لم يتحقق، فلا سيوف المشركين اغتالته، ولا هو لقي المصرع الذي كان يمني به نفسه..
    وصدق أبو بكر رضي الله عنه:
    " احرص على الموت..
    توهب لك الحياة"..!!
    صحيح أن جسد البطل تلقى يومئذ من سيوف المشركين بضعا وثمانين ضربة، أثخنته ببضع وثمانين جراحة، حتى لقد ظل بعد المعركة شهرا كاملا، يشرف خالد بن الوليد نفسه على تمريضه..
    ولكن كل هذا الذي أصابه كان دون غايته وما يتمنى..
    بيد أن ذلك لا يحمل البراء على اليأس.. فغدا تجيء معركة، ومعركة، ومعركة..
    ولقد تنبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه مستجاب الدعوة..
    فليس عليه إلا أن يدعو ربه دائما أن يرزقه الشهادة، ثم عليه ألا يعجل، فلكل أجل كتاب..!!
    ويبرأ البراء من جراحات يوم اليمامة..
    وينطلق مع جيوش الإسلام التي ذهبت تشيّع قوى الظلام الى مصارعها.. هناك حيث تقوم إمبراطوريتان خرعتان فانيتان، الروم والفرس، تحتلان بجيوشهما الباغية بلاد الله، وتستعبدان عباده..
    ويضرب البراء بسيفه، ومكان كل ضربة يقوم جدار شاهق في بناء العالم الجديد الذي ينمو تحت راية الإسلام نموّا سريعا كالنهار المشرق..
    وفي إحدى حروب العراق لجأ الفرس في قتالهم الى كل وحشية دنيئة يستطيعونها..
    فاستعملوا كلاليب مثبتة في أطرافها سلاسل محمأة بالنار، يلقونها من حصونهم، فتخطف من تناله من المسلمين الذين لا يستطيعون منها فكاكا..
    وكان البراء وأخوه العظيم أنس بن مالك قد وكل إليهما مع جماعة من المسلمين أمر واحد من تلك الحصون..
    ولكن أحد هذه الكلاليب سقط فجأة، فتعلق بأنس ولم يستطع أنس من السلسلة ليخلص نفسه، إذ كانت تتوهج لهبا ونارا..
    وأبصر البراء المشهد وأسرع نحو أخيه الذي كانت السلسلة المحمأة تصعد به على سطح جدار الحصن.. وقبض على السلسلة بيديه وراح يعالجها في بأس شديد حتى قصمها وقطعها.. ونجا أنس وألقى البراء ومن معه نظرة على كفيه فلم يجدوهما مكانهما..!!
    لقد ذهب كل ما فيهما من لحم، وبقي هيكلهما العظمي مسمّرا محترقا..!!
    وقضى البطل فترة أخرى في علاج بطيء حتى بريء..
    أما آن لعاشق الموت أن يبلغ غايته..؟؟
    بلى آن..!!
    وهاهي ذي موقعة تستر تجيء ليلاقي المسلمون فيها جيوش فارس
    ولتكون لـ البراء عيدا أي عيد..
    احتشد أهل الأهواز، والفرس في جيش كثيف ليناجزوا المسلمين..
    وكتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الى سعد بن أبي وقاص بالكوفة ليرسل الى الأهواز جيشا..
    وكتب الى أبي موسى الأشعري بالبصرة ليرسل الى الأهواز جيشا، قائلا له في رسالته:
    " اجعل أمير الجند سهيل بن عديّ..
    وليكن معه البراء بن مالك"..
    والتقى القادمون من الكوفة بالقادمين من البصرة ليواجهوا جيش الأهواز وجيش الفرس في معركة ضارية..
    كان الإخوان العظيمان بين الجنود المؤمنين.. أنس بن مالك، والبراء بن مالك..
    وبدأت الحرب بالمبارزة، فصرع البراء وحده مائة مبارز من الفرس..
    ثم التحمت الجيوش، وراح القتلى يتساقطون من الفرقين كليهما في كثرة كاثرة..
    واقترب بعض الصحابة من البراء، والقتال دائر، ونادوه قائلين:
    " أتذكر يا براء قول الرسول عنك: ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه، منهم البراء بن مالك..؟
    يا براء أقسم على ربك، ليهزمهم وينصرنا"..
    ورفع البراء ذراعيه الى السماء ضارعا داعيا:
    " اللهم امنحنا أكنافهم..
    اللهم اهزمهم..
    وانصرنا عليهم..
    وألحقني اليوم بنبيّك"..
    ألقى على جبين أخيه أنس الذي كان يقاتل قريب منه.. نظرة طويلة، كأنه يودّعه..
    وانقذف المسلمون في استبسال لم تألفه الدنيا من سواهم..
    ونصروا نصرا مبينا.
    ووسط شهداء المعركة، كان هناك البراء تعلو وجهه ابتسامة هانئة كضوء الفجر.. وتقبض يمناه على حثيّة من تراب مضمّخة بدمه الطهور..
    لقد بلغ المسافر داره..
    وأنهى مع إخوانه الشهداء رحلة عمر جليل وعظيم، ونودوا:
    ( أن تلكم الجنة، أورثتموها بما كنتم تعملون)
    نسألكم الدعاء لنا ولجميع المسلمين

  6. #6

    • كريم يحيى
    • Guest

    افتراضي صفوان بن أمية الآمن التائب

    إنه صفوان بن أمية ، أحد فصحاء العرب ، وواحد من أشراف

    قريش في الجاهلية ، قتل أبوه أمية بن خلف يوم بدر كافرا، وقتل

    عمه أُبي بن خلف يوم أحد كافرا بعد أن صرعه النبي صلى الله

    عليه وسلم ، وكان صفوان واحدا من المشهورين في إطعام الناس

    في قريش وكان يقال له : ( سِداد البطحاء )


    المؤامرة


    كان صفوان رضي الله عنه من أشد الناس عداوة وكرها للنبي صلى

    الله عليه وسلم وأصحابه قبل أن يدخل في الإسلام ، وقد جلس يوما

    في حجر الكعبة بعد غزوة بدر، وأخذ يتحدث مع عمير بن وهب

    رضي الله عنه عما حدث لقريش في بدر، ورأى صفوان أن صديقه

    عميرا رضي الله عنهما يريد الذهاب لقتل الرسول صلى الله عليه

    وسلم ولكنه لا يملك ، فساعده في تحقيق ذلك ، وذهب عمير

    رضي الله عنه إلى المدينة مصمما على قتل محمد صلى الله

    عليه وسلم ، ولكن شاء الله أن يُسلم عمير، وخاب ظن صفوان

    رضي الله عنهما .


    فتح مكة


    جاء فتح مكة فأسلمت زوجته ناجية بنت الوليد بن المغيرة ، وظل

    هوعلى كفره وعداوته للإسلام وهرب في شعب من شعاب مكة ،

    فعلم بذلك عمير بن وهب الذي ظل محافظا على صداقته لصفوان

    رضي الله عنهما ، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال :

    ( يا رسول الله ، إن صفوان بن أمية سيد قومه ، خرج هاربا

    ليقذف نفسه في البحر خوفا منك فأمنه فداك أبي وأمي )

    فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " قد أمنته "

    فخرج عمير رضي الله عنه من عند رسول الله صلى الله عليه

    وسلم مسرعا إلى الشعب الذي اختبأ فيه صفوان رضي الله

    عنه ، فلما رآه صفوان رضي الله عنه قال له :

    ( يا عمير ما كفاك ما صنعت بي ، قضيت عنك دينك ،

    وراعيت عيالك على أن تقتل محمدا فما فعلت ، ثم تريد

    قتلي الآن )

    فقال عمير رضي الله عنه :

    ( يا أبا وهب ، جعلت فداك ، جئتك من عند أبر الناس ،

    وأوصل الناس ، قد أمنك رسول الله )

    فقال صفوان رضي الله عنه :

    ( لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها )

    فرجع عمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال له ما يريده

    صفوان رضي الله عنه ، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم

    عمامته ، فأخذهاعمير وخرج إلى صفوان رضي الله عنهما ،

    وقال له : ( هذه عمامة رسول الله يا صفوان )

    فعرفها صفوان رضي الله عنه ، وعلم أن النبي صلى الله عليه

    وسلم قد أمنه.

    ثم قال له عمير رضي الله عنه :

    ( إن رسول الله يدعوك أن تدخل في الإسلام ، فإن لم ترض ،

    تركك شهرين أنت فيهما آمن على نفسك لا يتعرض لك أحد )

    وخرج صفوان مع عمير رضي الله عنهما حتى وصلا إلى

    المسجد ، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته

    يصلون العصر ، فوقف صفوان رضي الله عنه بفرسه بجانبهم ،

    وقال لعمير رضي الله عنه :

    ( كم يصلون في اليوم والليلة ؟ )

    فقال عمير رضي الله عنه : ( خمس صلوات )

    فقال صفوان رضي الله عنه : ( يصلى بهم محمد ؟ )

    قال عمير رضي الله عنه : ( نعم )

    وبعد أن انتهت الصلاة وقف صفوان رضي الله عنه أمام

    الرسول صلى الله عليه وسلم وناداه في جماعة من الناس

    وقال :

    ( يا محمد ، إن عمير بن وهب جاءني ببردك ، وزعم أنك

    دعوتني إلى القدوم عليك فإن رضيت أمرا ، وإلا سيرتني

    شهرين )

    فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :

    " أنزل أبا وهب "

    فقال صفوان رضي الله عنه : ( لا والله حتى تبين لي )

    قال صلى الله عليه وسلم :

    " انزل ، بل لك تسير أربعة أشهر "

    فنزل صفوان رضي الله عنه ، وأخذ يروح ويعود بين

    المسلمين وهو مشرك.


    يوم حُنين

    لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن

    ليلقاهم ، ذُكر له أن عند صفوان بن أمية رضي الله عنه

    أدراعا له وسلاحا ، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك وطلب

    منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعيره سلاحا ، فقال له

    صفوان رضي الله عنه : ( طوعا أم كرها يا محمد ؟ )

    فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :

    " بل طوعا ، عارية مضمونة أردها إليك "

    فأعاره صفوان رضي الله عنه مائة درع وسيف ، وأخذها

    المسلمون وخرجوا إلى الحرب وهو معهم.


    إسلامه


    عندما انتصر المسلمون وجمعوا من الغنائم الكثير ، أخذ رسول

    الله صلى الله عليه وسلم يفرق غنائم حُنين ، فأخذ صفوان

    رضي الله عنه يطيل النظر إلى شعب ملآن نعما وشاء ورعاء

    كأنها أعجبته ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلاحظ ذلك

    في عينيه ، فقال له : " يا أبا وهب يعجبك هذا ؟ "

    قال رضي الله عنه : ( نعم )

    قال صلى الله عليه وسلم : " هو لك "

    فقال رضي الله عنه :

    ( ما طابت نفس أحد بمثل هذا .. إلا نفس نبي ..

    أشهد أن لا إله إلا الله .. وأن محمدا عبده ورسوله )

    فمن الله عليه بالإسلام ، فأسلم وحسن إسلامه.

    وقال رضي الله عنه :

    ( لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني وإنه لأبغض الناس

    إلي ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي )


    الهجرة


    ظل صفوان رضي الله عنه مقيما في مكة يعبد الله ، ويقيم

    تعاليم الإسلام ، وذات يوم ، قابله رجل من المسلمين وقال

    له : يا صفوان من لم يهاجر هلك ، ولا إسلام لمن لا هجرة له.

    فحزن صفوان رضي الله عنه أشد الحزن ، وخرج إلى المدينة

    مهاجرا ، فنزل عند العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما ،

    فأخذه العباس رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه

    وسلم ، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم :

    " ما جاء بك يا أبا وهب ؟ "

    فقال صفوان رضي الله عنه : ( سمعت أنه لا دين لمن لم يهاجر )

    فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم له وقال :

    " ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة ، فلا هجرة بعد الفتح ،

    ولكن جهاد ونية "

    فاطمأن صفوان رضي الله عنه لذلك القول ، ورجع إلى مكة

    وهو مستريح الصدر.


    وفاته


    شارك صفوان رضي الله عنه في الفتوحات الإسلامية في

    عهد أمير المؤمنين عمر وعثمان بن عفان رضي الله عنهما

    وظل يجاهد في سبيل الله حتى اشتاقت روحه إلى لقاء ربها ،

    فمات بمكة سنة 42 هـ في أول خلافة معاوية بن أبي سفيان

    رضي الله عنه ، وقد روى كثيرا من أحاديث رسول الله صلى

    الله عليه وسلم ، وروى عنه الصحابة والتابعون رضي

    الله عنهم.

  7. #7

    • كريم يحيى
    • Guest

    افتراضي * الفدائي خالد بن سعيد رضي الله عنه *

    * الفدائي خالد بن سعيد رضي الله عنه *

    هو خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد

    مناف ، أحد السابقين الأولين إلى الإسلام ، أسلم خامس خمسة

    ولد في بيت وارف النعمة ، مزهو بالسيادة ، ولأب له في قريش

    صدارة وزعامة ، وكان شابا هادئ السمت ، ذكي الصمت ، منذ

    بدأ أخبار الدين الجديد كان النور يسري إلى قلبه ، وكتم ما في

    نفسه خوفا من والده الذي لن يتوانى لحظة عن تقديمه قربانا لآلهة

    عبد مناف .



    * إسلامه *

    منذ بدأت خيوط النور تسري في أنحاء مكة ، كان قلب خالد رضي الله

    عنه يلقي للنور الهامس سمعه وهو شهيد ، وطارت نفسه فرحا ، كأنما

    كان وهذه الرسالة على موعد ، وأخذ يتابع خيوط النور في سيرها

    ومسراها..

    وذات ليلة رأى خالد بن سعيد رضي الله عنه في منامه أنه واقف على

    شفير نار عظيمة ، وأبوه من ورائه يدفعه نحوها بكلتا يديه ، ويريد

    أن يطرحه فيها ، ثم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل عليه ،

    ويجذبه بيمينه المباركة من إزاره فيأخذه بعيدا عن النار واللهب ..

    وعندما استيقظ من نومه سارع من فوره إلى دار أبي بكر رضي الله

    عنه ، وقص عليه الرؤيا .. وما كانت الرؤيا بحاجة الى تعبير.

    وقال له أبو بكر رضي الله عنه :

    ( انه الخير أريد لك ، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه ،

    فان الإسلام حاجزك عن النار )

    وأنطلق خالد رضي الله عنه باحثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

    حتى يهتدي إلى مكانه ، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن دعوته ،

    فأجابه صلى الله عليه وسلم :

    " تؤمن بالله وحده ، ولا تشرك به شيئا ، وتؤمن بمحمد عبده ورسوله ،

    وتخلع عبادة الأوثان التي لا يسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع "

    وبسط خالد رضي الله عنه يمينه ، فتلقاها يمين رسول الله صلى الله عليه

    وسلم في حفاوة ، وقال خالد رضي الله عنه :

    ( إني أشهد أن لا اله إلا الله... وأشهد أن محمدا رسول الله )

    ويوم أسلم خالد رضي الله عنه ، لم يكن قد سبقه إلى الإسلام سوى أربعة

    أو خمسة ، فهو من الخمسة الأوائل المبكرين إلى الإسلام .



    * والده والعذاب *

    حين بباكر بالإسلام واحد من ولد سعيد بن العاص ، فان ذلك في

    رأي سعيد ، عمل يعرضه للسخرية والهوان من قريش ، ويهز

    الأرض تحت زعامته.

    لذلك حين بلغه نبأ إسلام خالد رضي الله عنه دعاه وقال له :

    أصحيح إنك اتبعت محمدا وأنت تسمعه يعيب آلهتنا ؟

    قال خالد : ( إنه والله لصادق ، ولقد آمنت به واتبعته )

    هنالك انهال عليه أبوه ضربا ، ثم زج به في غرفة مظلمة من داره ،

    حيث صار حبيسها ، ثم راح يضنيه ويرهقه جوعا

    وخالد يصرخ فيهم من وراء الباب المغلق عليه :

    ( والله انه لصادق ، وإني به لمؤمن )

    وبدا لسعيد أن ما أنزل بولده من ضررلا يكفي ، فخرج به

    إلى رمضاء مكة ، حيث دسه بين حجارتها الثقيلة الفادحة

    الملتهبة ثلاثة أيام لا يواريه فيها ظل ..

    ولا يبلل شفتيه قطرة ماء ..

    ويئس الوالد من ولده ، فعاد به إلى داره ، وراح يغريه ، ويرهبه

    يعده ، ويتوعده .. وخالد رضي الله عنه صامد كالحق ، يقول

    لأبيه :

    ( لن أدع الإسلام لشيء ، وسأحيا به وأموت عليه )

    وصاح سعيد رضي الله عنه :

    إذن فاذهب عني يا لكع ، فواللات لأمنعنّك القوت

    وأجابه خالد رضي الله عنه :

    ( والله خير الرازقين )

    وغادر الدار التي تعج بالرغد ، من مطعم وملبس وراحة..

    و راح خالد بن سعيد رضي الله عنه يقهر العذاب بالتضحية ، ويتفوق

    على الحرمان بالإيمان..

    ويُروى أن والده سعيد بن العاص مرض فقال :

    لئن رفعني الله من مرضي لايُعبد إله ابن أبي كبشة ببطن مكة

    فقال خالد بن سعيد رضي الله عنه :

    (اللهم لا ترفعه ، فمات من ذلك )

    وحين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه المؤمنين بالهجرة

    الى الحبشة ، كان خالد بن سعيد رضي الله عنه ، ممن شدوا رحالهم

    إليها ، مع الفوج الأول فأقام فيها بضع عشرة سنة ثم رجع مع جعفر

    بن أبي طالب رضي الله عنه والرسول صلى الله عليه وسلم في فتح

    خيبر فذهب إليه فأسهم له من الغنائم.



    * مكانته وجهاده *

    أقام خالد رضي الله عنه بالمدينة وسط المجتمع المسلم الجديد الذي

    كان أحد الخمسة الأوائل الذين شهدوا ميلاده ، وأسسوا بناءه ،

    وكان خالد رضي الله عنه بسبقه الى الإسلام ، وباستقامة ضميره

    ونهجه موضع الحب والتكريم ..

    وروي أنه رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه

    خاتم فضة مكتوب عليه ( محمد رسول الله ) فأعطاه إياه وهو الذي

    في يده صلى الله عليه وسلم بعد ذلك .

    وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي كتب كتاب

    أهل الطائف لوفد ثقيف وهو الذي مشى في الصلح بينهم وبين رسول

    الله صلى الله عليه وسلم وهو أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم.

    وكان لا يغزو النبي صلى الله عليه وسلم غزوة ، ولا يشهد مشهدا ،

    إلا وخالد بن سعيد رضي الله

    عنه من السابقين ..

    وقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا وأخويه أبانا وعمرا

    أبناء سعيد بن العاص رضي الله عنهم في اليمن ، فلما توفي رسول

    الله صلى الله عليه وسلم رجعوا عن عملهم ، فقال أبو بكر رضي الله

    عنه :

    ما لكم رجعتم ؟ ما أحد أحق بالعمل من عمال رسول الله صلى الله

    عليه وسلم ، ارجعوا إلى أعمالكم.

    فاستعفوا الصديق ….

    ثم لحقوا بالشام مجاهدين حتى استشهدوا جميعا .

    وعندما سير أبا بكر جيوشه الى مرج الصفر بأرض الشام ، أوصى

    أبو بكر رضي الله عنه قائد جيشه في الشام شرحبيل بن حسنة رضي

    الله عنه لا يقطع أمرا دون مشورة خالد رضي الله عنه لما يراه فيه من

    عقل ودين .



    * استشهاده *

    تزوج خالد بن سعيد أم حكيم بنت الحارث بن هشام رضي الله عنهما

    وكانت من قبل عند عكرمة بن أبي جهل الذي استشهد في معركة أجنادين.

    وذلك في ليلة معركة مرج الصفر فلما أصبح أولم ودعا أصحابه فما فرغوا

    من الطعام حتى اشتبك المسلمون والروم فانخرط خالد رضي الله عنه في

    المعركة وأبلى البلاء الحسن حتى استشهد ، فقامت زوجه أم حكيم رضي الله

    عنها وشدت عليها ثيابها وحملت عمود الخيمة وقتلت به سبعة من الروم عند

    قنطرة سميت بعد ذلك بـ : ( قنطرة أم حكيم )

    وكان ذلك سنة أربع عشرة من الهجرة.



    المصدر .. رجال حول الرسول عليه الصلاة والسلام

  8. #8

    • كريم يحيى
    • Guest

    افتراضي ضمام بن ثعلبة أفضل وافد على النبي

    هو ضمام بن ثعلبة السعدي ، وقيل‏ التميمي ، أحد بني سعد بن بكر .



    قدومه المدينة

    سمع ضمام رضي الله عنه بداع للرسول صلى الله عليه وسلم يعرض

    الإسلام ، فاطمأن قلبه ،‏ ثم بعثته بنو سعد بن بكر وافدا إلى رسول الله صلى

    الله عليه وسلم ، في سنة خمس من الهجرة ، وقيل‏ سنة سبع ، وقيل‏ سنة تسع ،

    فأخذ ناقته ، وركبها ووفد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .

    فأتى ، والصحابة رضي الله عنهم مجتمعون في المسجد مع الرسول صلى الله

    عليه وسلم ، والرسول صلى الله عليه وسلم كان من هديه أن يتكئ أحيانا على

    الميسرة ، وأحيانا على الميمنة ، فيأتي الأعرابي والغريب فلا يعرف الرسول صلى

    الله عليه وسلم .

    فأتى ثعلبه رضي الله عنه فعقل ناقته في طرف المسجد ، وجاء بعصاه

    يتخطى الصفوف ، وقال : أين ابن عبد المطلب ؟

    وهو ابن عبد الله ، لكن كان جده عند العرب أشهر ، لأنه كان سيدا مطاعا .

    ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حنين :

    " أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب "



    إسلامه


    روى ابن عباس رضي الله عنهما الحوار الذي دار بين النبي صلى الله عليه

    وسلم وضمام بن ثعلبه رضي الله عنه فقال ‏:

    ( بعثت بنو سعيد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله

    عليه وسلم ، فقدم عليه ، فأناخ بعيره ثم عقله على باب المسجد ، وكان

    رجلا جلدا ذا غديرتين ، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه

    وسلم ، وهو في المسجد جالس في أصحابه ، فقال :

    يا محمد

    قال : " نعم "

    قال : يا ابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن

    في نفسك ..

    قال : " لا أجد في نفسي فسل عما بدا لك "

    فقال : أنشدك إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله بعثك

    إلينا رسولا ؟

    قال : " اللهم نعم "

    قال : فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله أمرك

    أن تأمرنا أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئا وان نخلع هذه الأنداد التي كان

    آباؤنا يعبدون ..

    قال : " اللهم نعم "

    قال : فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله أمرك

    أن نصلي هذه الصلوات الخمس ..

    قال : " نعم "

    قال : ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة الزكاة والصيام والحج

    وشرائع الإسلام كلها ينشده عند كل فريضة منها كما يشهده في التي قبلها

    حتى إذا فرغ قال :

    ( فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وسأؤدي هذه الفرائض

    واجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص )

    ثم انصرف الى بعيره راجعا .

    قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

    " إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة "

    قال : فأتى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه ).



    دعوته قومه للإسلام


    قدم ضمام رضي الله عنه على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن

    قال : ( بئس اللات والعزى )

    قالوا : مه يا ضمام اتق البرص اتق الجذام اتق الجنون

    قال :

    ( ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان إن الله قد بعث رسولا ، وأنزل عليه

    كتابا أستنقذكم به مما كنتم فيه وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له

    وأن محمدا عبده ورسوله وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه )

    فما أمسى من ذلك اليوم في حاضرة رجل ولا امرأة إلا مسلما .



    أفضل وافد

    قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما :

    ( ما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة ، لأنه اختصر في المسالة ،

    وسأل عن مسائل عظيمة )


  9. #9

    • كريم يحيى
    • Guest

    افتراضي أم ورقة بنت عبد لله الأنصارية

    بشرها الرسول بالشهادة وهي في بيتها رضي الله عنها....



    اسمها وكنيتها:


    هي أم ورقة بنت عبد لله بن الحارث بن عويمر بن نوفل الأنصارية. وقيل: أم ورقه بنت نوفل،
    وهي مشهورة بكنيتها. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يزورها ويسميها الشهيدة.


    فضلـــــها:

    أم ورقه الأنصارية واحدة من الأنصاريات اللائي سطرن أروع الصفحات في تاريخ الإسلام ، وقد أسلمت مع السابقات .
    وكانت من فضليات نساء عصرها، ومن كرائم نساء المسلمين . نشأت على حب كتاب الله تعالى وراحت تقرأ آياته أناء الليل وأطراف النهار حتى غدت إحدى العابدات الفاضلات.
    فجمعت القرآن، وكانت تتدبر معانيه، وتتقن فهمه وحفظه، كما كانت قارئه مجيدة للقرآن ، واشتهرت بكثرة الصلاة .
    وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدر أم ورقة ويعرف مكانتها ويكبر حفظها وإتقانها ، ويأمر بأداء الصلاة في بيتها.


    مشاركتها في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم


    وأما عن حبها رضي الله عنها للجهاد والشهادة في سبيل الله فهاهي تحدثنا عن ذلك فتقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما غزا بدراً قلت له : يا رسول الله ، ائذن لي في الغزو معك ،
    أمرض مرضاكم لعل الله أأن يرزقني الشهادة . قال : " قري في بيتك فإن الله تعالى يرزقك الشهادة " .
    وعادت الصحابية العابدة أم ورقة إلى بيتها سامعة مطيعة أمر النبي صلى الله عليه وسلم لآن طاعته واجبة .
    وغدت أم ورقة رضي الله عنها تعرف بهذا الاسم المعطار " الشهيدة " بسبب قوله صلى الله عليه وسلم : " قري في بيتك فإن الله تعالى يرزقك الشهادة " ،
    ولما ذكره ابن الأثير في أسد الغابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد زيارتها اصطحب معه ثلة من أصحابه الكرام ، وقال لهم " انطلقوا بنا نزور الشهيدة " .

    وظلت الصحابية الجليلة أم ورقة رضي الله عنها تحافظ على شعائر الله تعالى طوال حياة رسول الله ،
    صلى الله عليه وسلم، وكانت تنتظر ما بشرها الرسول، صلى الله عليه وسلم. وانتقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم
    إلى الرفيق الأعلى وهو راض عن أم ورقة ، ثم جاء عهد أبي بكر، رضي الله عنه، فتابعت حياه العبادة والتقوى على الصورة التي كانت عليها من قبل.


    تحقق بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لها بالشهادة :


    لقد بشرها النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة. عندما طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشترك في الجهاد وتداوي جراح وأمراض المرضى .
    فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مبشرا :" إن الله يهديك الشهادة وقري في بيتك فانك شهيدة ".


    وفاتها و(استشهادها) رضي الله عنها:

    في عهد عمر كان رضي الله عنه بتفقدها ويزورها اقتداء بنيه صلى الله عليه وسلم. وقد كانت أم ورقة تملك غلاما وجارية ،
    كانت قد وعدتهما بالعتق بعد موتهما ، فسولت لهما نفساهما أن يقتلا أم ورقة ، وذات ليله قاما إليها فغمياها وقتلاها ،
    وهربا فلما أصبح عمر رضي الله عنه قال: والله ما سمعت قراءة خالتي أم ورقة البارحة فدخل الدار فلم ير شيئا ،
    فدخل البيت فإذا هي ملفوفة في قطيفة في جانب البيت فقال: صدق الله ورسوله ، ثم صعد المنبر فذكر الخبر،
    وقال: علي بهما ، فأتى بهما فكانا أول مصلوبين في المدينة . 3 فرحم الله تعالى الصحابية الأنصارية والشهيدة العابدة أم ورقة ورضي الله عنها وأرضاها .


  10. #10

    • كريم يحيى
    • Guest

    افتراضي بلال بن رباح - الساخر من الأهوال

    كان عمر بن الخطاب، اذا ذكر أبو بكر قال:

    " أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا"..

    يعني بلالا رضي الله عنه..

    وان رجلا يلقبه عمر بسيدنا هو رجل عظيم ومحظوظ..

    لكن هذا الرجل الشديد السمرة، النحيف الناحل، المفرط الطول الكث الشعر، الخفيف العارضين، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه اليه، وتغدق عليه، الا ويحني رأسه ويغض طرفه، ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل:

    "انما أنا حبشي.. كنت بالأمس عبدا"..!!

    فمن هذا الحبشي الذي كان بالأمس عبدا..!!

    انه "بلال بن رباح" مؤذن الاسلام، ومزعج الأصنام..
    انه احدى معجزات الايمان والصدق.

    احدى معجزات الاسلام العظيم..

    في كل عشرة مسلمين. منذ بدأ الاسلام الى اليوم، والى ما شاء الله سنلتقي بسبعة على الأقل يعرفون بلالا..

    أي أن هناك مئات الملايين من البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا، وحفظوا اسمه، وعرفوا دوره. تماما كما عرفوا أعظم خليفتين في الاسلام: أبي بكر وعمر...!!

    وانك لتسأل الطفل الذي لا يزال يحبو في سنوات دراسته الأولى في مصر، أ، باكستان، أ، الصين..

    وفي الأمريكيتين، وأوروبا وروسيا..

    وفي العراق ، وسوريا، وايران والسودان..

    في تونس والمغرب والجزائر..

    في أعماق أفريقيا، وفوق هضاب آسيا..

    في كل يقعة من الأرض يقتنها مسلمون، تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم: من بلال يا غلام؟

    فيجيبك: انه مؤذن الرسول.. وانه العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة المستعرّة ليردّه عن دينه، فيقول:

    "أحد.. أحد.."



    وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الاسلام بلالا.. فاعلم أن بلال هذا، لم يكن قبل الاسلام أكثر من عبد رقيق، يرعى ابل سيّده على حفنات من التمر، حتى يطو به الموت، ويطوّح به الى أعماق النسيان..

    لكن صدق ايمانه، وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته، وفي تاريخه مكانا عليّا في الاسلام بين العظماء والشرفاء والكرماء...

    ان كثيرا من عليّة البشر، وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم، لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلال العبد الحبشي..!!

    بل ان كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلال..

    ان سواد بشرته، وتواضع حسبه ونسبه، وهوانه على الانس كعبد رقيق، لم يحرمه حين آثر الاسلام دينا، من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه ويقينه، وطهره، وتفانيه..



    ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب، الا حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير مظانها..

    فلقد كان الناس يظنون أن عبدا مثل بلال، ينتمي الى أصول غريبة.. ليس له أهل، ولا حول، ولا يملك من حياته شيئا، فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله.. يروح ويغدو وسط شويهات سيده وابله وماشيته..

    كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن، لا يمكن أن يقدر على شيء ولا أن يكون شيئا..

    ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا، فيقدر على ايمان، هيهات أن يقدر على مثله سواه.. ثم يكون أول مؤذن للرسول والاسلام العمل الذي كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول..!!

    أجل.. بلال بن رباح!

    أيّة بطولة.. وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح..؟!




    **




    انه حبشي من أمة السود... جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة، حيث كانت أمه احدى امائهم وجواريهم..

    كان يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه، ولا أمل له في غده..!!

    ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه، حين أخذ الانس في مكة يتناقلونها، وحين كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم، سيما "أمية بن خلف" أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها..

    لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا، وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا، وغمّا وشرا..



    وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون، الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها.. كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته..!!

    أجل انه ليسمعهم يعجبون، ويحارون، في هذا الذي جاء به محمد..!!

    ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد يوما كاذبا. ولا ساحرا..ولا مجنونا.. وان ام يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله، حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون الى دينه..!!

    سمعهم يتحدّثون عن أمانته..

    عن وفائه..

    عن رجولته وخلقه..

    عن نزاهته ورجاحة عقله..

    وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديّ وعداوته، تلك هي: ولاؤهم لدين آبائهم أولا. والخوف على مجد قريش ثانيا، ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني، كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها، ثم الحقد على بني هاشم، أن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول...!




    **




    وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله، ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه، فيذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلم..

    ولا يلبث خبر اسلامه أن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في اسلام عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار..

    عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد..؟!

    ويقول أميّة لنفسه: ومع هذا فلا بأس.. ان شمس هذا اليوم لن تغرب الا ويغرب معها اسلام هذا العبد الآبق..!!

    ولكن الشمس لم تغرب قط باسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها، وحماة الوثنية فيها...!




    **




    أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للاسلام وحده، وان كان الاسلام أحق به، ولكنه شرف للانسانية جميعا..

    لقد صمد لأقسى الوان التعذيب صمود البرار العظام.

    ولكأنما جعله الله مثلا على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من عظمة الروح اذا وجدت ايمانها، واعتصمت بباريها، وتشبثت بحقها..

    لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه، وفي كل مان، للذين على دينه وعلى كل دين.. درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا، ولا بملئها عذابا..

    لقد وضع عريانا فوق الجمر، على أن يزيغ عن دينه، أو يزيف اقتناعه فأبى..



    لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام، والاسلام، من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير، والدفاع عن حريته وسيادته..

    لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها الماتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال، ويلقون به فوق جسده وصدره..

    ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله، على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره..



    ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه، ويشتري بها حياته نفسه، دون أن يفقد ايمانه، ويتخلى عن اقتناعه..

    حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال أن يقولها..!

    نعم لقد رفض أن يقولها، وصار يردد مكانها نشيده الخالد:"أحد أحد"

    يقولون له: قل كما نقول..

    فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية:

    "ان لساني لا يحسنه"..!!

    ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره، حتى اذا حان الأصيل أقاموه، وجعلوا في عنقه حبلا، ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها. وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس:" أحد أحد".



    وكأني اذا جنّ عليهم الليل يساومونه:

    غدا قل كلمات خير في آلهتنا، قل ربي اللات والعزى، لنذرك وشأتك، فقد تعبنا من تعذيبك، حتى لكأننا نحن المعذبون!

    فيهز رأسه ويقول:" أحد.. أحد..".

    ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا وغيظا، ويصيح: أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء..؟واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا.

    ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس:

    "أحد.. أحد.."

    ويعود للحديث والمساومة، من وكل اليه تمثيل دور المشفق عليه، فيقول:

    خل عنك يا أميّة.. واللات لن يعذب بعد اليوم، ان بلالا منا أمه جاريتنا، وانه لن يرضى أن يجعلنا باسلامه حديث قريش وسخريّتها..

    ويحدّق بلال في الوجوه الكاذبة الماكرة، ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر، ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا:

    "أحد.. أحد.."

    وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة، ويؤخذ بلال الى الرمضاء، وهو صابر محتسب، صامد ثابت.

    ويذهب اليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه، ويصيح بهم:

    (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)؟؟

    ثم يصيح في أميّة بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا..

    وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة..



    لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره اذ كان اليأس من تطويع لال قد بلغ في في نفوسهم أشده، ولأنهم كانوا من التجار، فقد أردكوا أن بيعه أربح لهم من موته..

    باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره، وأخذ بلال مكانه بين الرجال الأحرار...



    وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به الى الحرية قال له أمية:

    خذه، فواللات والعزى، لو أبيت الا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..

    وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا بألا يجيبه..

    ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له، وندّا،أجاب أمية قائلا:

    والله لو أبيتم أنتم الا مائة أوقية لدفعتها..!!



    وانطلق بصاحبه الى رسول الله يبشره بتحريره.. وكان عيدا عظيما!

    وبعد هجرة الرسول والمسلمين الى المدينة، واستقرارهم بها، يشرّع الرسول للصلاة أذانها..

    فمن يكون المؤذن للصلاة خمس مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته..؟

    انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: "الله أحد..أحد".

    لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للاسلام.

    وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ الأفئدة ايمانا، والأسماع روعة وهو ينادى:

    الله أكبر.. الله أكبر

    الله أكبر .. الله أكبر

    أشهد أن لااله الا الله

    أشهد أن لا اله الا الله

    أشهد أن محمدا رسول الله

    أشهد أن محمدا رسول الله

    حي على الصلاة

    حي على الصلاة

    حي على الفلاح

    حي على الفلاح

    الله أكبر.. الله أكبر

    لااله الا الله...



    ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم الى المدينة غازيا..

    وتدور الحرب عنيفة قاسية ضارية..وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الاسلام، غزوة بدر.. تلك الغزوة التي أمر الرسول عليه السلام أن يكون شعارها: "أحد..أحد".




    **




    في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ أكبادها، وخرج أشرافها جميعا لمصارعهم..!!

    ولقد همّ بالنكوص عن الخروج "أمية بن خلف" .. هذا الذي كان سيدا لبلال، والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة..



    همّ بالنكوص لولا أن ذهب اليه صديقه "عقبة بن أبي معيط" حين علم عن نبأ تخاذله وتقاعسه، حاملا في يمينه مجمرة حتى اذا واجهه وهو جالس وسط قومه، ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي، استجمر بهبذ، فانما أنت من النساء..!!!

    وصاح به أمية قائلا: قبحك الله، وقبّح ما جئت به..

    ثم لم يجد بدّا من الخروج مع الغزاة فخرج..

    أيّة أسرار للقدر، يطويها وينشرها..؟

    لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر مشجع لأمية على تعذيب بلال، وغير بلال من المسلمين المستضعفين..

    واليوم هو نفسه الذي يغريه بالخروج الى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه..!!

    كما سيكون فيها مصرع عقبة أيضا!

    لقد كان أمية من القاعدين عن الحرب.. ولولا تشهير عقبة به على هذا النحو الذي رأيناه لما خرج..!!

    ولكن الله بالغ أمره، فليخرج أمية فان بينه وبين عبد من عباد الله حسابا قديما، جاء أوان تصفيته، فالديّان لا يموت، وكما تدينون تدانون..!!



    وان القدر ليحلو له أن يسخر بالجبارين.. فعقبة الذي كان أمية يصغي لتحريضه، ويسارع اى هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء، هو نفسه الذب سيقود أميّة الى مصرعه..

    وبيد من..؟

    بيد بلال نفسه.. وبلال وحده!!

    نفس اليد التي طوّقها أميّة بالسلاسل، وأوجع صاحبها ضربا، وعذابا..

    مع هذه اليد ذاتها، هي اليوم، وفي غزوة بدر، على موعد أجاد القدر توقيته، مع جلاد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا وعدوا..

    ولقد حدث هذا تماما..



    وحين بدأ القتال بين الفريقين، وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين بشعارهم:" أحد.. أحد" انخلع قلب أمية، وجاءه النذير..

    ان الكلمة التي كان يرددها بالأمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم شعار دين بأسره وشعار الأمة الجديدة كلها..!!

    "أحد..أحد"؟؟!!

    أهكذا..؟ وبهذه السرعة.. وهذا النمو العظيم..؟؟




    **




    وتلاحمت السيوف وحمي القتال..

    وبينما المعركة تقترب من نهايتها، لمح أمية بن خلف" عبد الرحمن بن عوف" صاحب رسول الله، فاحتمى به، وطلب اليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته..

    وقبل عبد الرحمن عرضه وأجاره، ثم سار به وسط العمعمة الى مكان السرى.

    وفي الطريق لمح بلال فصاح قائلا:

    "رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت ان نجا".

    ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي لطالما أثقله الغرور والكبر، فصاح به عبد الرحمن بن عوف:

    "أي بلال.. انه أسيري".

    أسير والحرب مشبوبة دائرة..؟

    أسير وسيفه يقطر دما مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين..؟

    لا.. ذلك في رأي بلال ضحك بالعقول وسخرية.. ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه الكفاية..

    سخر حتى لم يترك من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم، وهذا المأزق، وهذا المصير..!!

    ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن عوف، فصاح بأعلى صوته في المسلمين:

    "يا أنصار الله.. رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت ان نجا"...!

    وأقبلت كوكبة من المسلمين تقطر سيوفهم المنايا، وأحاطت بأمية وابنه ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئا.. بل لم يستطع أن يحمي أذراعه التي بددها الزحتم.

    وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة، ثم هرول عنه مسرعا وصوته النديّ يصيح:

    "أحد.. أحد.."




    **




    لا أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا المقام..

    فلو أن اللقاء بين بلال وأمية تمّ في ظروف أخرى، لجازنا أن نسال بلالا حق التسامح، وما كان لرجل في مثل ايمانه وتقاه أن يبخل به.

    لكن اللقاء الذي تم بينهما، كان في حرب، جاءها كل فريق ليفني غريمه..



    السيوف تتوهج.. والقتلى يسقطون.. والمنايا تتواثب، ثم يبصر بلال أمية الذي لم يترك في جسده موضع أنملة الا ويحمل آثار تعذيب.

    وأين يبصره وكيف..؟

    يبصره في ساحة الحرب والقتال يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين، ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ لطوّح به..

    في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها، لا يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل بلالا: لماذا لم يصفح الصفح الجميل..؟؟




    **




    وتمضي الأيام وتفتح مكة..

    ويدخلها الرسول شاكرا مكبرا على رأس عشرة آلاف من المسلمين..

    ويتوجه الى الكعبة رأسا.. هذا المكان المقدس الذي زحمته قريش بعدد أيام السنة من الأصنام..!!

    لقد جاء الحق وزهق الباطل..

    ومن اليوم لا عزى.. ولا لات.. ولا هبل.. لن يجني الانسان بعد اليوم هامته لحجر، ولا وثن.. ولن يعبد الناس ملء ضمائرهم الا الله الي ليس كمثله شيء، الواحد الأحد، الكبير المتعال..

    ويدخل الرسول الكعبة، مصطحبا معه بلال..!

    ولا يكاد يدخلها حتى يواجه تمثالا منحوتا، يمثل ابراهيم عليه السلام وهو يستقسم بالأزلام، فيغضب الرسول ويقول:

    "قاتلهم الله..

    ما كان شيخنا يستقسم بالأزلام.. ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين".



    ويأمر بلال أن يعلو ظهر المسجد، ويؤذن.

    ويؤذن بلال.. فيالروعة الزمان، واملكان، والمناسبة..!!

    كفت الحياة في مكة عن الحركة، ووقفت الألوف المسلمة كالنسمة الساكنة، تردد في خشوع وهمس كلمات الآذان ورء بلال.



    والمشركون في بيوتهم لا يكادون يصدقون:

    أهذا هو محمد وفقراؤه الذين أخرجوا بالأمس من هذا الديار..؟؟

    أهذا هو حقا، ومعه عشرة آلاف من المؤمنين..؟؟

    أهذا هو حقا الذي قاتلناه، وطاردنبه، وقتلنا أحب الناس اليه..؟

    أهذا هو حقا الذي كان يخاطبنا من لحظات ورقابنا بين يديه، ويقول لنا:

    "اذهبوا فأنتم الطلقاء"..!!



    ولكن ثلاثة من أشراف قريش، كانوا جلوسا بفناء الكعبة، وكأنما يلفحهم مشهد بلال وهو يدوس أصنامهم بقدميه، ويرسل من فوق ركامها المهيل صوته بالأذان المنتشر في آفاق مكة كلها كعبير الربيع..

    أما هؤلاء الثلاثة فهم، أبوسفيان بن حرب، وكان قد أسلم منذ ساعات، وعتّاب بن أسيد، والحارث بن هشام، وكانا لم يسلما بعد.



    قال عتاب وعينه على بلال وهو يصدح بأذانه:

    لقد أكرم الله اسيدا، ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث:

    أما والله لو أعلم أن محمدا محق لاتبعته..!!

    وعقب أبو سفيان الداهية على حديثهما قائلا:

    اني لا أقول شيئا، فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى!! وحين غادر النبي الكعبة رآهم، وقرأ وجوههم في لحظة، قال وعيناه تتألقان بنور الله، وفرحة النصر:

    قد علمت الذي قلتم..!!!

    ومضى يحدثهم بما قالوا..

    فصاح الحارث وعتاب:

    نشهد أنك رسول الله، والله ما سمعنا أحد فنقول أخبرك..!!

    واستقبلا بلال بقلوب جديدة..في أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب الرسول أول دخول مكة:

    " يامعشر قريش..

    ان الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء..

    الناس من آدم وآدم من تراب"..




    **




    وعاش بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشهد معه المشاهد كلها، يؤذن للصلاة، ويحيي ويحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات الى النور، ومن الرق الى الحريّة..

    وعلا شأن الاسلام، وعلا معه شأن المسلمين، وكان بلال يزداد كل يوم قربا من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصفه بأنه:" رجل من أهل الجنة"..

    لكن بلالا بقي كما هو كريما متواضعا، لا يرى نفسه الا أنه:" الحبشي الذي كان بالأمس عبدا"..!!





    ذهب يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما:

    "أنا بلال، هذا أخي عبدان من الحبشة.. كنا ضالين فهدانا الله.. ومنا عبدين فأعتقنا الله.. ان تزوّجونا فالحمد لله.. وان تمنعونا فالله أكبر.."!!




    **




    وذهب الرسول الى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا، ونهض بأمر المسلمين من بعده خليفته أبو بكر الصديق..

    وذهب بلال الى خليفة رسول الله يقول له:

    " يا خليفة رسول الله..

    اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفضل عمل لبمؤمن الجهاد في سبيل الله"..

    فقال له أبو بكر: فما تشاء يا بلال..؟

    قال: أردت أن أرابط في سبيل الله حتىأموت..

    قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟

    قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع، اني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله.

    قال أبو بكر: بل ابق وأذن لنا يا بلال..

    قال بلال: ان كنت أعتقتني لأكون لك فليكن لك ما تريد. وان كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له..

    قالأبو بكر: بل أعتقتك لله يا بلال..

    ويختلف الرواة، فيروي بعضهم أنه سافر الى الشام حيث بقي فيها مجاهدا مرابطا.

    ويروي بعضهم الآخر، أنه قبل رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة، فلما قبض وولي عمر الخلافة استأذنه وخرج الى الشام.



    على أية حال، فقد نذر بلال بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور الاسلام، مصمما أن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يحبانه.



    ولم يعد يصدح بالأذان بصوته الشجي الحفيّ المهيب، ذلك أنه لم ينطق في أذانه "أشهد أن محمدا رسول الله" حتى تجيش به الذمؤيات فيختفي صوته تحت وقع أساه، وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته.

    وكان آخر أذان له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون اليه أن يحمل بلالا على أن يؤذن لهم صلاة واحدة.

    ودعا أمير المؤمنين بلال، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها.

    وصعد بلال وأذن.. فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن له.. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا.. وكان عمر أشدهم بكاء..!!




    **




    ومات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد.



    وتحت ثرى دمشق يثوي اليوم رفات رجل من أعظم رجال البشر صلابة في الوقوف الى جانب العقيدة والاقتناع...

+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

المواضيع المتشابهه

  1. كنيسة عمرها اكثر من 1000 سنة ديكورها من عظام المسلمين +صور
    بواسطة عبير في المنتدى المنتدي العام
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 03-01-2011, 04:01 AM
  2. العلماء المسلمون
    بواسطة م/السيد محمد في المنتدى منتدى الكيمياء
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 18-07-2010, 04:21 PM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك