+ الرد على الموضوع
صفحة 3 من 6 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 30 من 58

الموضوع: بلاغة القرآن في التعبير بالغدو والعشي والإبكار

  1. #21

    • عبير
    • Guest

    افتراضي

    ووجه دلالة التعبير بالغدو والآصال عن التذكير بالموت - على ما توحى به عبارته- هو أنه "عند الإصباح يخرج الإنسان من شبه الموت إلى شبه الوجود وهو اليقظة، وعند العشاء يخرج الإنسان من اليقظة إلى النوم(1) يقول البقاعي:

    'خص هذين الوقتين وإن كان المراد الدوام بتسمية كل من اليوم والليلة باسم جزئه، ليذكر بالغدو:
    الانتشار من الموت
    وبالأصيل: السكون بالموت والرجوع إلى حال العدم فيستحضر بذلك جلال الله عز وجل، فيكون ذلك حاويا على تعظيمه(2)

    أما وجه دلالة التعبير بهما على قيام الساعة فـلأن ساعتيهما، أثناء الطي والبعث(3).
    وعن الدلالة الظاهرة على طي الخلق وزوال الدنيا كلها والخلود إلى الراحة الجسدية بعد البعث، وعلى انتشار الناس بعد الاستيقاظ إلى الأمور الضرورية التي بها قوام حياتهم، يقول البقاعي في تفسيره لقول الله تعالى:

    (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا .. الإنسان/25)

    أي :عند قيامك من منامك، وتذكرك أنه يحيي الموتى ويحشرهم إليه جميعا، وعند انقراض نهارك وتذكرك انقراض دنياك وطي هذا العالم لأجل إيجاد يوم الفصل(4)، وهو في معنى ما ذكره الإمام الفخر.

    (1) الر ازي 12/452.
    (2) نظم الدرر 3/179.
    (3) السابق 5/57.
    (4) السابق 8/276 بتصرف، وينظر 6/114، 7/266.

    5- كونهما من الأوقات التى تختلف فيها أحوال الناس وتتغير تغيرا ظاهرا مصححا لوصفهم بالخروج عما قبلها والدخول فيها(1).
    وهذا أمر ملموس ويستوجب ذكره سبحانه بمجامع التسبيح وتنزيهه عن كل نقص إذ فى ذكر أوقات التسبيح في آية الروم إشارة إلى ما فيها من التغير الذي هو منزه عنه وإلى ما يتجدد فيها من النعم ووجود الأحوال الدالة على القدرة على الإبداع الدال على البعث لذا قال لافتا الكلام إلى الخطاب لأنه أشد تنبيها ودالا على الاستغراق بنزع الخافض (حين تمسون) مقدما المحو لأنه أدل على البعث الذي النزاع فيه وهو الأصل(2) وفي هذا المعنى أخرج الإمام أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني في عمل اليوم والليلة والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدعوات عن معاذ بن أنس قوله
    - صلى الله عليه وسلم - :
    (ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذى وفى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد فى السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون)

    وفيه أخرج أبو داود والطبراني وابن السني وابن مردويه عن ابن عباس قوله - صلى الله عليه وسلم - :

    (من قال حين يصبح (سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون .. إلى قوله تعالى: وكذلك تخرجون)
    أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته من ليلته)،

    إلى غير ذلك من الأخبار المؤدية إلى ذلك المعنى والدالة عليه.

    (1) الآلوسي 21/45 مجلد 12.
    (2) ينظر نظم الدرر 5/609.

    6- كونهما المنوط بهما والمتطلع بالصلاة في زمانيهما إلى التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، لحديث جرير بن عبد الله البجلي، الذى يقول فيه:
    كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر يعني ليلة البدر فقال:

    (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون(1) في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)

    ثم قرأ

    (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب .. ق /39)(2).

    يقول ابن حجر: فيه إشارة إلى قطع أسباب الغلبة المنافية للاستطاعة كالنوم والشغل ومقاومة ذلك بالاستعداد له، وقوله: (فافعلوا) أى عدم الغلبة، وهو كناية عما ذكر من الاستعداد، ووقع فى رواية شعبة... فلا تغفلوا عن صلاة قبل طلوع الشمس .. الحديث
    (قوله: قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)
    زاد مسلم يعنى صلاة العصر والفجر، ولابن مردويه من وجه آخر عن إسماعيل:
    (قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل غروبها صلاة العصر)(3).

    وقال الخطابى فيما نقله عنه الحافظ: هذا يدل على أن الرؤية قد يرجى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين(4).
    وذكر أهل العلم أن وجه مناسبة ذكر هاتين الصلاتين عند ذكر الرؤية، أن الصلاة أفضل الطاعات، وقد ثبت لهاتين الصلاتين من الفضل على غيرهما، ما ذكر من اجتماع الملائكة فيهما ورفع الأعمال وغير ذلك، فهما أفضل الصلوات، فناسب أن يجازى المحافظ عليهما بأفضل العطايا وهو النظر إلى الله تعالى، والحكمة فى اجتماعهم في هاتين الصلاتين من لطف الله تعالى بعباده وإكرامه لهم، فقد جعل اجتماع ملائكته في حال طاعة عباده لتكون شهادتهم لهم أحسن شهادة(5)

    1) أي لا يحدث لكم ضيم والمراد نفي الازدحام.
    (2) أخرجه البخاري 554، 7434 ومسلم 633، وأبو داود 4729، والترمذي 2551، وابن ماجة177، وابن حبان 7442وأحمد 4/360.
    (3) فتح الباري 2/26.
    (4) السابق 2/27.
    (5) السابق 2/27، 28.



  2. #22

    • عبير
    • Guest

    افتراضي

    ومما يستفاد من الحديث (أن الصلاة أعلى العبادات) لأنه عنها وقع السؤال والجواب، وفيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان، وفي غيرهما طائفة واحدة، وفيه الإشارة أيضا إلى شرف الوقتين المذكورين، وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح وأن الأعمال ترفع آخر النهار فمن كان حينئذ في طاعة بورك في رزقه وفي عمله، وهذا يترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما والاهتمام بهما، وفيه تشريف هذه الأمة على غيرها، ويستلزم تشريف نبيها على غيره وفيه الإخبار بالغيوب وهذا يترتب عليه زيادة الإيمان، كما فيه الإخبار بما نحن فيه من ضبط أحوالنا حتى نتيقظ ونتحفظ في الأوامر والنواهى ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربنا وسؤال ربنا عنا، وفيه إعلامنا بحب ملائكة الله لنا لنزداد فيهم حبا ونتقرب إلى الله بذلك، وفيه كلام الله تعالى مع ملائكته وغير ذلك من الفوائد(1).
    (1) السابق 2/30 بتصرف.

  3. #23

    • عبير
    • Guest

    افتراضي

    المبحث الثاني :

    التسبيح بالغدو والآصال بين القائلين بالحقيقة والقائلين فيه بالمجاز

    ذهب غير واحد من أهل التأويل إلى أن المراد بالتسبيح في الآيات التي ورد الأمر به في وقتي العشي والإبكار أو الغدو والآصال .. الصلاة، كذا أورده الحافظ ابن كثير عن الحسن والضحاك، حيث قالا فيما نقله عنهما:

    (يسبح له فيها بالغدو والآصال) يعني: الصلاة(1)
    وبنحوه روى سعيد بن جبير عن ابن عباس:
    كل تسبيح في القرآن هو الصلاة(2)، كما قال به سعيد بن المسيب ومجاهد وقتادة(3).

    وإطلاقه عليها من إطلاق اللازم على الملزوم فهو كناية عنها، أو هو من إطلاق الجزء على الكل، فنوع مجازه مرسل وعلاقته الجزئية، إذ التسبيح جزء من الصلاة، والنكتة في ذلك كونها مشتملة على تسبيح الله وتنزيهه، أو الزمانية ووجهه أن "الزمان كثيرا ما يطلق ويراد به ما يقع فيه كما يقال: صلى الصبح والمراد صلاته، وقد يعكس فيراد بالصلاة زمانها نحو: قربت الصلاة أى وقتها، وقد يراد بها مكانها كما قيل فى قوله تعالى :

    (ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى .. النساء/43)

    أن المراد بالصلاة: المساجد"(4).

    وفى تحديد تلك الصلوات المرادة في هذين الوقتين المباركين "أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنهما عبارة عن صلاتي الصبح والعصر .. وخصا بالذكر لشرفهما(5)

    كذا أخرجه الحافظ ابن كثير عن ابن عباس قائلا :
    يعني بالغدو: صلاة الغداة
    ويعني بالآصال: صلاة العصر. وهما أول ما افترض الله من الصلاة، فأحب أن يذكرهما وأن يذكر بهما عباده(6)، وباعتبارهما طرفي النهار، فما يقع بينهما يجبه الصلاة فيهما.

    (1) تفسير ابن كثير 3/303.
    (2) السابق وينظر روح المعاني للآلوسي 18/258 مجلد 10.
    (3) ابن كثير 2/137.
    (4) روح المعاني 7/232 مجلد 5 وينظر حاشية الشهاب 4 /103.
    (5) السابق.
    (6) تفسير ابن كثير 3/303 وينظر فتح القدير للشوكاني 4/37.

    وفى رواية أخرى لابن عباس أن المراد من التسبيح بكرة: صلاة الفجر
    والتسبيح أصيلا: صلاة العشاء(1)
    كما أورد الآلوسي عن قتادة نحوا مما روى عن ابن عباس إلا أنه قال:
    أشار بهذين الوقتين إلى صلاة الغداة وصلاة العصر، وهو أظهر مما روي عن الحبر(2)
    يقصد فى روايته القائلة بأنهما صلاتا الفجر والعشاء.

    وأبعد من جنح إلى أن المراد بالأصيل: الظهر والعصر، وبالعشي: المغرب، بزعم أن المراد بذكرهما شمول ساعات النهار أوسائر أوقات اليوم والليلة، وأن ما يقرب من الشيئ يجوز أن يطلق عليه اسمه(3)، وأشد منه بعدا: الزعم بأن الأصيل: صلاة العشاء، لما ذكرنا، وكذا الزعم بأن الإبكار عبارة عن أول النهار إلى النصف، والعشي عبارة عن النصف إلى آخر النهار فيدخل فيه كل الأوقات"(4). إذ القول باللتيا والتى لا يخلو - على ما سنذكر- عن كدر.

    (1) روح المعاني 22/61 مجلد 12.
    (2) السابق.
    (3) ينظر تفسير الرازي 16/88، 8/631.
    (4) تفسير الرازي 13/570.



  4. #24

    • عبير
    • Guest

    افتراضي

    وأجاز طائفة من أهل العلم جعل المأمور به من التسبيح:
    قول (سبحان الله) بقصد إجلاله تعالى وتنزيهه - قولا واعتقادا- عن كل عيب فيكون الحمل فيه على الحقيقة، وإنما خص التسبيح من جملة الذكر وأنواعه لأنه يعني التنزيه عما لا يجوز على الله من النقائص فهو من أكمل الذكر لاشتماله على جوامع الثناء والتمجيد.
    ولأن في التسبيح إيماء إلى التبرؤ مما يقوله أهل الكفر والنفاق في حق الله وفى حق نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بدعوته، فيكون فى معنى قول الله تعالى :

    (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم .. النور/16)

    فإن كلمة (سبحان الله) يكثر أن تقال فى مقام التبرؤ من نسبة ما لا يليق كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :
    (سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس)
    وقول هند بنت عتبة حين أخذ - صلى الله عليه وسلم -
    على النساء البيعة (أن لا يزنين): سبحان الله أو تزني الحرة؟(1).

    (1) ينظر التحرير والتنوير 22/48 مجلد11.قال أبو حيان: الظاهر أن قوله تعالى:
    (وسبح بحمد ربك)
    أمر بالتسبيح مقرونا بالحمد، وحينئذ إما أن يراد اللفظ، أى:
    قل (سبحان الله والحمد لله)، أو يراد المعنى:
    أي نزهه سبحانه عن السوء وأثن عليه بالجميل، وفي خبر ذكره ابن عطية:
    (من سبح عند غروب الشمس سبعين تسبيحة غربت بذنوبه) ، وقال أبو مسلم:
    لا يبعد حمل ذلك على التنزيه والإجلال.
    والمعنى : اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات، وعلى ذلك حمله العز ابن عبد السلام، واختار الإمام الرازي حمل التسبيح على التنزيه من الشرك وتابعه في ذلك الآلوسي.
    قال الفخر: إنه أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره، يعني في الآيات التي جاء فيها الأمر بالصبر قبيل الأمر بالتسبيح كما في قوله:

    (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل .. طه/130)

    وقوله:

    (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب .. ق/39)

    وقوله: لأنه سبحانه صبره أولا على ما يقولون من التكذيب وإظهار الكفر والشرك، والذى يليق بذلك أن يؤمر بتنزيهه تعالى عن قولهم حتى يكون مظهرا لذلك وداعيا إليه(43)


  5. #25

    • عبير
    • Guest

    افتراضي

    وأعترض بأنه لا وجه حينئذ لتخصيص هذه الأوقات بالذكر، وأجيب بأن المراد بذكرها، الدلالة على الدوام كما فى قوله تعالى:

    (بالغداة والعشي)(الأنعام/52، الكهف/28)

    مع أن لبعض الأوقات مزية لأمر لا يعلمه إلا الله تعالى، ورد بأنه يأباه (من) التبعيضية في قوله في آية طه
    (ومن آناء الليل) على أن هذه الدلالة يكفيها أن يقال:
    قبل طلوع الشمس وبعده لتناوله الليل والنهار، فالزيادة تدل على أن المراد خصوصية الوقت .
    وعورض ما قاله الإمام - للمرة الثانية- بأن الأنسب بالأمر بالصبر، الأمر بالصلاة ليكون ذلك إرشادا لما تضمنه قوله تعالى:

    (واستعينوا بالصبر والصلاة) (البقرة/45)

    وأيضا الأمر الآتي أوفق بحمل الأمر بالتسبيح على الأمر بالصلاة(1).
    وحمل الأمر بالتسبيح على أي من الوجهين السابقين، بهذا. مما التبست فيها الطرائق، ولا يسعنا أن نجزم بطريقة هي أسلم ولا أقرب إلى فهم المعنى المراد، من أن نكل أمر الحسم أو الترجيح في هذا الشأن إلى سياقات الآيات وقرائن أحوالها، فهذان - في تقديري- كافيان وحدهما وكفيلان بمعرفة ما إذا كان المراد من التسبيح ظاهره أو المراد منه التجوز فيكون بمعنى الصلاة. إذ من الإجحاف أن نحمل كل الآيات الآمرة بالتسبيح في ذينك الوقتين على معنى واحد، أو نجعلها - على تعددها وتنوع سياقاتها- تسير على وتيرة واحدة.

    (1) روح المعاني 16/412، 313مجلد 9بتصرف، وينظر 21/44 مجلد 12 ومفاتيح الغيب 12/447.
    فهناك من الآيات الآتية على هذا النمط ما ينصب حديثها حول تواقيت الصلاة، سيما ما ذكر فيها الوقتان بلفظ (الطرف) الذى يعنى أول النهار أوآخره، سواء ما جاء منه على صيغة التثنية كما في قوله سبحانه:

    (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل)(هود/114)،

    أو بأسلوب الجمع كما في قوله عز من قائل :

    (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار)
    (طه/130)

    وكذا ما ذكرا فيه بلفظ (قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) كما فى الآية سالفة الذكر، ونظيرها في قوله سبحانه:

    (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. ومن الليل فسبحه وأدبار السجود)
    ( ق/39، 40)

    أو ما كان نصا في سرد أوقات الصلاة الأخرى مما هو في معنى ما ذكر كما الحال في قوله تعالى:

    (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون)
    ( الروم/17، 18)

    فمثل هذا يجمل حمل الأمر بالتسبيح فيه على معنى الصلاة إذ ليس ثمة ماهو أدل على تحديد مواقيت الصلاة على وجه التقصي كتابا وسنة، من حركة الشمس بكرة وأصيلا وما يحدث إبان دوران الأرض حولها وما يطرأ على الأرض إثر غروبها من تغيرات كونية وتعاقب الليل والنهار.
    وهناك من التسبيح مما جاء فى حق الأنبياء، ما يومىء إلى ما كان في شرائع من قبلنا من صلاة كانت لهم على نحو معين في أول النهار وقبيل انتهائه، وهذا ضرب آخر من التسبيح ذكره الفيروزابادى قائلا في شأنه بعد أن عدد ما ورد في حق الملائكة وما جاء فى حق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - :

    وأما... التي للأنبياء، فالأولى لزكريا، علامة على ولادة يحيى :

    (قال رب اجعل لي آية)

    إلى قوله :

    (وسبح بالعشي والإبكار ) (آل عمران/41)

    الثاني في وصيته لقومه على محافظة وظيفة التسبيح :

    (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) ( مريم/11)،

    والثالث في موافقة الجبال والظباء والحيتان والطير لداود في التسبيح

    (يسبحن بالعشي والإشراق ) ( ص/18) (1)

    وهذا كسابقه لا معنى له إلا بالحمل على المجاز لما سيأتى من ورود آثار تدل على مشروعية صلاة كانت لهم في هذين الوقتين تقضي بتأدية ركعتين أول النهار - هما أشبه بصلاة الضحى في شريعتنا الغراء - وركعتين قبيل انتهائه.

    وهناك ما أخبرت الآيات بتسبيحه في الوقتين المباركين بما لا يمكن لنا فهمه ولا يتأتى لنا إدراكه، من نحو ذاك الذى يحدث مما لا يتصور أن يقع منه كلام نعيه أو صلاة أو سجود نبصره، من الجمادات والحادثات التى يقول سبحانه فى شأنها:

    (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) (الرعد/15)

    ويقول:

    (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ) (ص/18).

    فإن هذا وأضرابه مع دخوله في عموم قول الله تعالى :

    (تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)(الإسراء/44)

    لا يتأتى منه - في حدود بشريتنا وفي نطاق معرفتنا- قول ولا يصدر منه فعل إلا ما كان منه على سبيل المعجزة أو الكرامة.

    (1) بصائر ذوي التمييز 2/287.


  6. #26

    • عبير
    • Guest

    افتراضي

    فالأليق بمثل هذا أن يحمل على معنى الانقياد والتسخير الذى يصدر عن طواعية(1) على سبيل الاستعارة بالكناية، أو على وجه الحقيقة على أن يخول الأمر فيه لخالقه فهو سبحانه العليم بأسرار خلقه.
    وهناك من الآي ما سبق الأمر فيها بالتسبيح في الوقتين، الأمر بالذكر، فناسب - لكون التسبيح واحدا من أنواعه وفردا من جملته- أن يجعل من قبيل عطف الخاص على العام، وبالتالي فيكون معنى التسبيح فيه على ظاهره، ولك أن تتأمل مصداق ذلك في قوله سبحانه:


    (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال. رجال ..) (النور/36، 37)

    وقوله جل ذكره :

    (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) (الأحزاب/41، 42)

    كما يفضل عند الاقتصار على الذكر في نفس الوقتين كما هو الشأن في نحو قوله تعالى :

    (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا. ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا ..) (الإنسان/25، 26)
    أن يحمل المطلق فيه على المقيد.

    فالذي يطمئن إليه الباحث، أن مراعاة هذه الضوابط ووضعها في الاعتبار وملاحظتها عند تحديد المراد من التسبيح أو الذكر في وقتي الغدو والآصال، هو مما يساعد على فهم ما يهدف إليه النص القرآني، ويكون من التكلف والجور التسوية بين النصوص وجعلها على نحو ما فعل جل المفسرين على نمط واحد، إما أن يراد منها التنزيه وحمل المعنى على ظاهره بقول (سبحان الله)، أو يراد منها الصلاة . هكذا دون ما إبصار لمواقعها ولا إنعام نظر فيما يعين من القرائن على حملها على الوجه الصحيح، وينشأ عن ذلك تحميل النصوص مالا تحتمل أو صرفها عما يدل السياق بقرائن الأحوال على تحديد مراد الله منها.

    (1) ليتوافق مع قول الله تعالى :

    (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين).( فصلت/11).
    ولنبحر في أعماق تيك الآيات، كيما يتسنى لنا – من خلال الوقوف على المعاني المقصودة من التسبيح - التعرف على وجهها الصحيح، وما إذا كان المراد بالتسبيح فيها ظاهره الموضوع لها في اصطلاح التخاطب، أم المراد به بمعونة السياق وقرائن الأحوال التجوز، أم أن الأمر فيه، له اعتلاق بهذا وذاك فيكون على ما قال ابن عاشور في المقدمة التاسعة:

    فمختلف المحامل التي تسمح بها كلمات القرآن وتراكيبه وإعرابه ودلالته، من اشتراك وحقيقة ومجاز، وصريح وكناية، وبديع ووصل ووقف، إذا لم تفض إلى خلاف المقصود من السياق، يجب حمل الكلام على جميعها(1).

    ولتكن بداية حديثنا بما يحسن استخدامه من التسبيح، لغير ما وضع له في اصطلاح التخاطب.

    أولا: ما يجمل فيه حمل التسبيح بطرفي النهار على المجاز

    1- ما يتصل منها بمواقيت الصلاة:
    وتفريعا عما سبق ذكره فإننا عندما نجيل البصر في سورتي هود وطه الوارد فيهما بعضا من الآيات التي تحدثت عن التسبيح طرفي النهار، نجد أن أولى هاتين السورتين مكية عدا ثلاث آيات منها، كما نلحظ أن من بين هذه الثلاث قوله جل ذكره:

    (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل) (هود/114)

    وبإرجاعنا البصر كرة أخرى إلى ثاني هاتين السورتين نرى أنها كذلك مكية عدا قوله تعالى :

    (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى. ولا تمدن عينيك الى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خيراوأبقى)
    (طه/130، 131).

    (1) ينظر المقدمة التاسعة للطاهر ابن عاشورفي التحريروالتنوير1/97.
    وهذا يدعونا الى مزيد من التبصر فيما يعين على فهم المراد من التسبيح، فالآيتان اللتان تحدثتا عن طرفي النهار في السورتين، نزلتا بالمدينة أى بعد فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج، وفى إحدهما أمر بالصلاة صراحة، وفيها وفي أختها تحديد لتواقيت الصلاة، وقد أعمل فقهاء الأمة فيهما عقولهم كيما يستنطقوا منهما ومما جاء على شاكلتهما من نحو قوله سبحانه:

    (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرأن الفجر) (الإسراء/78)(1)

    مواقيت الصلاة التي فرضها الله على المؤمنين من عباده وجعلها بعد أن كلفهم بالحفاظ عليها، كتابا موقوتا، وأمر كهذا يمثل في الإسلام عمود الدين الذي لايقوم إلا به، وأول ما فرض الله على عباده وأول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة وأخر وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته يستأهل أن يوجد في القرأن ما يشير إليه ويحدد معالمه.

    على أن ما استقر في ضمير الباحث هنا يعد من وجهة نظره قرائن حالية بل ولفظية كذلك، ترجح من كفة جعل المراد من التسبيح الصلاة، وتدل على أن المقصود بطرفي النهار:
    هما صلاتا الصبح والعصر على ما قال به الحسن في إحدى روايتيه، وكما ارتآه قتادة والضحاك وابن زيد والجمهور.

    (1) وكذا قوله :

    (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون)
    ( الروم/17، 18)
    وما ذكره الحافظ ابن كثير في تفسير آية هود من احتمال أن تكون هذه الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء
    (1) بناء على فرضية الخمس بالمدينة على ما روى عن الحسن، هو من زخرف القول، لوقوع حادثة الإسراء والمعراج قبل الهجرة، وفرضية الصلاة ليلته عند التحقيق، فقد أورد ابن سعد في طبقاته الكبرى أنها كانت قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا، كما أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما ما يدل على فرضية الصلاة في تلك الليلة المباركة، ففي سردهما لقصة الإسراء والمعراج بطولها، ذكرا أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

    (ذهب به إلى سدرة المنتهى، وأوحى الله إليه عندئذ ما أوحى .. وفيها فرضت الصلوات الخمس على المسلسين)
    كما أخرجا قوله - صلى الله عليه وسلم - عند تحدى كفار مكة:

    (لما كذبتني قريش قمت في الحجر(2) فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)(3)

    يقول صاحب فقه السيرة:
    وفي صبيحة ليلة الإسراء جاء جبريل وعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيفية الصلاة وأوقاتها، وكان عليه السلام قبل مشروعية الصلاة يصلي ركعتين صباحا ومثليهما مساء كما كان يفعل إبراهيم عليه السلام(4).

    (1) تفسير ابن كثير2/473.
    (2) يعني حجر إساعيل بجوف الكعبة.
    (3) حديث المعراج أخرجه البخاري 3207، 3393، 3430، 3887 ومسلم 164، 265، والترمذي 3346 والنسائي 8/346، 1/217، 223 كلهم من حديث صعصعة المطول بلفظ : (فيما أنا في الحطيم).
    (4) فقه السيرة للبوطي ص 116.

  7. #27

    • عبير
    • Guest

    افتراضي

    والقول بأن المدلول اللغوي لـ (الطرف) وهو نهاية الشيئ، لا يعين على حمل المعنى على الصلاة، يرد عليه بأنه يجوز أن يراد بـ (الطرف) طائفة من الشيىء، فإنه أحد معانيه كما في الصحاح والقاموس(1)، ومما يعد قرينة على صحة ما ذكرت من أمر حمل التسبيح في مثل هذا المقام على معنى الصلاة، وجعل ذلك من قبيل المجاز المرسل لعلاقة الجزئية لإطلاق البعض وهو التسبيح وإرادة الكل، ما أخرجه الحاكم عن فضالة عن وهب الليثي من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له :
    (حافظ على العصرين)
    قال: قلت وما العصران يا رسول الله؟ قال:
    (صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)

    فإذا أضيف إلى هذا ما أفاده ذكر أوقات الليل فى الآيات سالفة الذكر من دلالة ظاهرة على تعيين المراد وتحديد الصلوات الأخرى المتعينة فيها ازداد الأمر وضوحا وتأكد لنا صحة ما ارتأيناه، فقد ترجح لدى كثير من أهل التأويل أن صلاة الزلف الواردة في قوله جل ذكره:

    (وزلفا من الليل)

    مرا د بها صلاتا المغرب والعشاء، وهذا - على ما ترجح لدي أيضا- هو المختار لكونه الأدخل في حمل مقابله وهو
    (طرفي النهار) على ظاهره، والأوفق مع قوله جل ذكره في آية طه:

    (ومن آناء الليل)

    بعد قوله:

    (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) (طه/130، 131)(2)

    وقوله في :

    (ومن الليل فسبحه)

    بعد قوله:

    (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) ( ق/39، 40).

    (1) ينظر القاموس المحيط 3/162، والصحاح ، ولسان العرب4/2659 (مادة طرف).
    (2) ينظر الآلوسي 12/234 مجلد 7، 16/411 مجلد 9، 26/290 مجلد 14 وينظر حاشية الشهاب 7/380
    وما كان كذلك كان أولى في التقديم وفي الحمل على معنى الصلاة مما قيل من أن معنى (زلفا) قربا
    فيكون حقه على هذا - كما في الكشاف - أن يعطف على الصلاة أي أقم الصلاة طرفي النهار وأقم الصلاة زلفا من الليل، أي صلوات تتقرب بها إلى الله عز وجل كان واجبا عليه - صلى الله عليه وسلم -، أو العشاء والوتر على ما ذهب إليه أبوحنيفة، أو المجموع كما يقتضيه ظاهر الجمع،(1) إذ القول بأى من هذه الآراء لا يخلو عن كدر، وبخاصة مع ما نقله ابن كثير والشوكاني عن الحسن فى رواية ابن المبارك عن مبارك بن فضالة عنه (وزلفا من الليل) يعني المغرب والعشاء، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :

    (هما زلفا الليل المغرب والعشاء)

    كذا قال مجاهد ومحمد بن كعب وقتادة والضحاك أنها صلاة المغرب والعشاء(2)، فضلا عن أن تكرار التأدية لصلاتي المغرب والعشاء يمكن أن يتحقق معه معنى الجمع، ناهيك عما سبق ذكره أن آية هود وجل ما جاء على شاكلتها مما تقدم، قد نزل بالمدينة، وهذا يتلائم معه ما ذكرنا.

    ويأتي في معنى (زلفا من الليل) قوله في آية طه : (ومن آناء الليل) إذ الآناء - وهو بوزن أفعال ومفرده (إني) و(أنو) بالياء والواو وكسر الهمزة، و(إنا) بالكسر والقصر- هو على ما ترجح وقتا المغرب والعشاء(3) قال الراغب في مفرداته:
    قال الله تعالى:

    (غير ناظرين إناه ) (الأحزاب/53) أي وقته (4).

    (1) ينظر الآلوسي 12/234 مجلد 7 والكشاف2/297 وحاشية الشهاب 5/248، وابن كثير 3/175.
    (2) تفسير ابن كثير 2/473 وفتح القدير 2/532.
    (3) التحرير 16/338 مجلد 8.
    (4) المفردات في غريب القرآن ص 29.



  8. #28

    • عبير
    • Guest

    افتراضي

    وفي إشارة صريحة لمعنى التسبيح في الليل الوارد في آية ق ذهب غير واحد إلى أن المراد بالتسبيح الصلاة على أنه من إطلاق الجزء أو اللازم على الكل أو الملزوم، وعليه فالمراد بالصلاة قبل الطلوع الصبح وقبل الغروب العصر، قاله قتادة وابن زيد والجمهور وأخرجه الطبراني في الأوسط وابن عساكر عن جرير بن عبد الله مرفوعا، (ومن الليل) صلاة العتمة
    (وإدبار السجود) النوافل بعد المكتوبات كذا أخرجه ابن جرير عن ابن زيد ونص عليه الآلوسي في تفسيره
    (1)
    والوجه في الاهتمام بـ (آناء الليل) وزلفه، أن الليل وقت تميل فيه النفوس إلى الدعة، فيخشى أن يتساهل في أداء الصلاة فيه(2) وعلل له الفخر الرازي بقوله :
    لأن الجمعية -أي جمع القلب والهمة- فيه أكثر، وذلك لسكون الناس وهدوء حركاتهم وتعطيل الحواس عن الحركات وعن الأعمال، ولذلك قال سبحانه وتعالى :

    (إن ناشئة الليل هى أشد وطئا وأقوم قيلا) (المزمل/6)

    وقال :

    (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر ويرجو رحمة ربه) (الزمر/9)

    ولأن الليل وقت السكون والراحة فإذا صرف إلى العبادة كانت على الأنفس أشق وللبدن أتعب، فكانت أدخل في استحقاق الأجر والفضل
    (3).

    (1) الآلوسي 26/290 مجلد 14.
    (2) التحرير 6/338 مجلد 8.
    (3) الرازي 11/70.

  9. #29

    • عبير
    • Guest

    افتراضي

    وبرأيي أن النكتة البلاغية لجمع (طرف) فى قوله جل شأنه :

    (ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار)

    على الرغم من أن للنهار طرفان ورد ذكرهما فى قوله :

    (وأقم الصلاة طرفي النهار)

    وقوعه في حال الجمع معمولا لـ (سبح) ووقوعه في حال التثنية معمولا لـ (أقم الصلاة) وفي هذا ما يشير إلى أن الصلاة وإن كان الأمر فيها قاصرا على طرفي النهار أوله وآخره، وهما على ما ترجح (الفجر والعصر) فإنه لا يعني أن يخلو سائر يوم المسلم من تسبيح لله وشغل للسان بذكره، وأنه إذا كان للنهار طرفان يتم شغلهما بتأدية الصلاة التي لا تشغل حيزا كبيرا من الوقت، فإن ثمة طرفان آخران يستغرقان سائر ساعات النهار ينبغي ملؤهما مع سابقيهما، بالتقديس والتنزيه لصاحب العظمة والكبرياء جل جلاله، أولهما عند انتهاء النصف الأول من الطرف الأول من النهار وهو طرف سير الشمس في قوس الأفق، وبلوغ سيرها وسطه، والمعبر عنه بالزوال، والثاني عند ابتداء النصف الثاني من القوس والذي يوافق الشطر الأول من النصف الثاني من النهار، فيكون للنهار أربعة أطراف أوله وآخره، وآخر نصفه الأول وأول نصفه الثاني(1)
    والكل مستغرق بالتسبيح ولذا نزع الخافض .. وتكون الدلالة على فضيلة الصبح والعصر في الآية المجموع فيها مفردة (الطرف) من أوجه ثلاثة هي :

    (1) ويسوغ مع هذين الأخيرين إدخال صلاتي الضحى والظهر لكونهما في نهاية النصف الأول من طرف النهار الأول، وبداية النصف الآخر من الشطر الثاني له. ويكون حمل التسبيح فيهما حينذاك على المجاز لإطلاق البعض وإرادة الكل، وهو الصلاة لاشتمالها عليه وهو الموافق لما روي عن ابن عباس من أنه حمل الغداة على وقت الضحى

    (ينظر تفسير الآلوسي 13/58 مجلد 10.)
    التقديم في قوله :

    (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)

    والتكرير بذكرهما ثانية مندرجين تحت (أطراف النهار)، وإرادة الاختصاص بالذكر بعد التعميم المشتمل على ساعات النهار، أو بضميمة قوله (آناء الليل)، المستغرق لجميع ساعات اليوم والليلة اهتماما، كذكر جبريل بعد الملائكة في قوله:

    (تنزل الملائكة والروح فيها) (القدر/4)

    والصلاة الوسطى بعد الصلوات جميعا في قوله :

    (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)(البقرة/238)

    وذلك لضيق وقت آخر النهار المخصص لصلاة المغرب، ولكون الصبح وقت نوم(1)، وإن كنت لا أرى بأسا في الاستئناس في ذلك من إمكانية أن يكون السر في جمع طرف حاصلا من كون الطرف يتكرر في كل نهار ويعود، فتكون (أل) في النهار للجنس الشامل لكل نهار ويكون الجمع باعتبار تعدد النهار وأن لكل طرفان، أو يكون من باب إطلاق الجمع على المثنى وهو متسع فيه في العربية عند أمن اللبس كقوله تعالى :

    (فقد صغت قلوبكما) (التحريم/4)

    والذي حسن جمعه هنا على أى وقوعه مشاكلة لجمع آخر هو قوله :

    (ومن آناء الليل)(2)

    ومهما يكن من أمر فقد أجمع المتأولون على أن التسبيح في آية طه بمعنى الصلاة، ساق هذا الإجماع ابن عطية وعلل هل الطاهر بقوله : لذلك صار فعل التسبيح منزلا منزلة اللازم لأنه في معنى صل (3)

    (1) ينظر الكشاف 2/559، وحاشية الشهاب 6/407، ونظم الدرر 5/57، والتحرير 16/ 339 مجلد 8.
    (2) ينظر التحرير 16/339 مجلد 8 والآلوسي 16/412 مجلد9.
    (3) التحرير 2/ 327 مجلد 12.

    والنكتة في تصدير الآيتين الكريمتين بالأمر بالصبر قبيل الأمر بالتسبيح، الإعلام بأعظم ما يستعان به في شتى مصائب الدنيا، وهذا مما يعضد من شأن حمل التسبيح على معنى الصلاة، بل ويعين على التشيع له في سائر ما دلت القرائن على استعماله في ذات المعنى، إذ هو الأنسب مع الأمر بالصبر ليكون إرشادا لما تضمنه قوله تعالى :

    (واستعينوا بالصبر والصلاة ) (البقرة/45)(1).

    على أن ما قيل في شأن الآيات الآمرة بالتسبيح، المحددة لمعالم أوقات الصلاة، وكذا ما ذكر في أمر نزولها بالمدينة دون سائر آيات السورة التي وردت فيها. يقال مثله في قوله سبحانه في سورة الروم :

    (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ) (الروم/17)

    ففي المصاحف المتداولة بين أيدينا أن هذه الآية، هي الآية الوحيدة من بين سائر آيات السورة البالغ عددها ستين آية، التي نزلت بالمدينة المنورة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- الأمر الذي يومىء إلى أن التسبيح الوارد فيها - بالنظر إلى تلك القرينة- يراد به الصلاة، وأن المراد بـ (عشيا) بعدها، هو صلاة العصر لكونه المتصل به والمقابل لقوله :

    (وحين تصبحون)

    بل إن هذا مما نص عليه الدامغاني في الوجوه والنظائر ودل عليه الأثر فقد أخرج عبد الرازق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني والحاكم وصححه، عن أبي رزين قال :
    جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس فقال: هل تجد الصلوات الخمس فى القرآن؟ فقال: نعم. فقرأ
    (فسبحان الله حين تمسون): صلاة المغرب، (وحين تصبحون): صلاة الفجر، (وعشيا): صلاة العصر (وحين تظهرون): صلاة الظهر ... وأخرج ابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه قال: جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة
    (فسبحان الله حين تمسون): المغرب والعشاء، (وحين تصبحون): الفجر، (وعشيا): العصر، (وحين تظهرون): الظهر وذهب الحسن إلى نحو ذلك(2)

    (1) ينظر الآلوسي16/413مجلد9.
    (2) ينظر الكشاف 3/217 والآلوسي 21/42 مجلد 12وفتح القدير4/222 والوجوه والنظائر1/ 446.

  10. #30

    • عبير
    • Guest

    افتراضي

    ولا يستقيم لنا مع هذا، ما ذكره ابن عاشور من أن التسبيح في هذه الأوقات سلك به مسلك الإطناب لأنه مناسب لمقام الثناء
    (1) لأن هذا التعليل ناشىء عن القول بحمل التسبيح على ظاهره، والآثار ترده كما لا صحة لما اختاره الرازى
    وتابعه فيه - بقوة وبحماس زائدين- الآلوسي، من حمل التسبيح في الآية الكريمة على ظاهره من معنى التنزيه، زاعمين أنه أقوى والمصير إليه أولى، لأنه يتضمن الأول(2) يعنى معنى الصلاة .
    أما أولا: فلما ذكرت، وأما ثانيا: فلأن عكس ما قالاه هو الصحيح، لكون الصلاة مشتملة عليه وعلى غيره.

    وإذا كان الوجه فيما اختاراه وتعصبا له تنزيهه سبحانه عن صفات النقص ووصفه بصفات الكمال، بالأمر المطلق الذي لا يختص بنوع دون نوع فيكون الأمر به أمر بالصلاة(3)، فإن فيما تركاه يتناول التنزيه بالقلب وهو الاعتقاد الجازم وباللسان مع ذلك وهو الذكر الحسن، وبالأركان معهما وهو العمل الصالح الذى يأتي على قمته التلبس بالصلاة عمود الدين ورأسه في الإسلام، وتلك - وأيم الله - هى ثمرة التنزيه وذروته، لكونها ثمرة الثاني وهما معا ثمرة الأول ، ذلك أن الإنسان إذا اعتقد شيئا ظهر من قلبه على لسانه، وإذا قال ظهر صدقه في مقاله، وإذا عمل ظهرت حجته في أحواله وأفعاله، فاللسان ترجمان الجنان، والأركان برهان اللسان. وعليه فتنزيهه سبحانه بالصلاة من قبل العبد برهان على تنزيهه من قبله لسواها، وهي لاشتمالها على الذكر باللسان والقصد بالجنان والعمل بالأركان -لا جرم- كانت أفضل الأعمال، فهي في التحقيق تنزيه له سبحانه بما هو أعم وأشمل.

    (1) التحرير والتنوير 21/65 مجلد 10.
    (2) الرازي 12/447 والآلوسي 2/44 مجلد 12.
    (3) ينظر السابقين.

    ولقد ناقض الفخر الرازي نفسه تناقضا شديدا حين ألمع في موطن آخر إلى أن التسبيح في آية الروم عينها مراد به الصلاة، بل راح - وهو الذى تعصب بشدة لحمل المعنى فيها على ظاهره- راح يستدل بها ويجعلها عمدة في الاحتجاج على إفادة التسبيح لمعنى الصلاة. فقد ذكر في تفسيره لقول الله تعالى مخاطبا نبيه زكريا عليه السلام :

    (واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار) (آل عمران/41)

    أن قوله: (وسبح) المراد منه (وصل)لأن الصلاة تسمى تسبيحا، قال تعالى :

    (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون)

    واستطرد يقول مفصحا عن علة مجازيتها – وأيضا الصلاة مشتملة على التسبيح، فجاز تسمية الصلاة بالتسبيح(1).
    فما يكون موقف الآلوسي من هذا ياترى وهو الذى كان ينبغي عليه أن يأخذ هذا الكلام ويبني عليه موقفه متكئا على ما ورد من الآثار، بدل أن يقول:


    وأنا بالإمام اقتدى فى دعوى أولوية الحمل على الظاهر(2)

    وبدل أن يتكلف له ويبني عليه رأيه مكررا ومؤكدا على ما ذكره الفخر وقائلا :

    واختار الإمام الرازي حمل التسبيح على التنزيه فقال :
    إنه أقوى والمصير إليه أولى لأنه يتضمن الصلاة(3)، على الرغم من بطلان هذا الادعاء، وأن العكس من ذلك هو الصحيح؟


    على أن قولنا المدعوم بالقرائن وبالآثار التى تقطع بمفاد التسبيح في حق آية الروم وما يجمل حمل معناه عليه بمعونة السياق، لا يمنعنا بحال - إحقاقا للحق - من التسليم بما ذكره ابن عاشور من أن ما ذكر بهذا الصدد لا يعنى أن الصلوات الخمس وأوقاتها هى المراد تحديدا من الآية، أو أن الآية نص قطعي فيها وفي تحديد أوقاتها، ولكن نقول بأن الآية الكريمة نسجت على نسج صالح لشموله الصلوات الخمس وأوقاتها وذلك من إعجاز القرأن لأن الصلاة وإن كان فيها تسبيح ويطلق عليها السبحة فلا يطلق عليها: سبحان الله(4).

    (1) الرازي 4/205.
    (2) الآلوسي 21/44 مجلد 12.
    (3) السابق وينظر الرازي 12/447.
    (4) ينظر التحرير 21/66 مجلد 10.

+ الرد على الموضوع
صفحة 3 من 6 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 ... الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

المواضيع المتشابهه

  1. القرآن و النبات
    بواسطة أم محمد في المنتدى علم النبات
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 03-03-2011, 12:33 AM
  2. القرآن فلاش
    بواسطة كريم يحيى في المنتدى المنتدي الديني
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 16-01-2011, 05:00 AM
  3. قالوا عن القرآن
    بواسطة كريم يحيى في المنتدى المنتدي الديني
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 03-01-2011, 06:36 PM
  4. التعبير بأقل الالفاظ
    بواسطة البسيط في المنتدى عذب الكلام
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 01-08-2009, 10:37 PM
  5. القرآن كائن حي
    بواسطة كريم يحيى في المنتدى قسم الكتب الدينية
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 05-07-2009, 09:43 PM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك