إن العوامل المناخية والطبوغرافية وحدها المسؤولة عن تركز السكان في شرق الصين , رغم أهمية أثرها البالغ , بل إن سبل المواصلات البرية والنهرية تلعب دورا مهما في ذلك , ففي الشرق تتوفر الأنهار , كما تتوفر شبكات طويلة وجيدة من الطرق المعبدة , مما يسهل نقل الأفراد والبضائع , بينما مازال الغرب الصيني في حاجة لمثل هذه الخدمات , وقد تنبهت الحكومة الصينية المركزية في الوقت الحاضر لذلك , وبدأت في وضع برنامج لتنمية الغرب. وعامل آخر من عوامل تركز السكان في الشرق, وهو أن ضفاف الأنهار في الشرق كانت مهدا للحضارة الصينية , ولذا كان التكاثر في الشرق عبر القرون أكثر منه في الغرب.
في سياق الحديث عن التوزيع السكاني في الصين , جدير بنا أن نتحدث بصفة موجزة عن الأمن الغذائي في هذه البلاد التي تحتوي22% من سكان المعمورة , في الوقت الذي ر يصلح للزراعة من أرضها الشاسعة سوى 11% فقط , بينما لا يزرع غير 7% . لقد أسهب العلماء والمحللون في الحديث عن هذا الموضوع الهام , ومنهم من يرى أن قطعة محدودة من الأرض يمكنها أن توفر الغذاء لعدد محدود من البشر , وأن أي زيادة عن ذلك الحد لا بد لها أن تفضي إلى مجاعة, يموت نتيجة لها عدد من الناس ليحدث التوازن بين الإنسان والغذاء , وقد أثبتت الأيام عقم هذا القول , فالإنسان بطبعه يستطيع أن يؤقلم نفسه بالادخار أو التقليل من اٌستهلاك , ليتناسب مع ما هو متاح بشكل لا يتفق مع نسبة محددة بين الإنسان والأرض ,إلا أن المجاعة قد تحدث في ظل الكوارث البينية الناتجة من المناخ, أو من فعل الإنسان.وفي الوقت الحاضر فإن هذا القول لم يعد قائما , فالتقنية الحديثة كفيلة بالرفع من إنتاجية الوحدة الواحدة من الأرض , وتسهيل جلب الماء وتحسين التربة , إضافة لإلى قدرة الإنسان على استيراد ما يحتاجه من غذاء في حالة الضرورة , وتوفر المبالغ اللازمة. فهناك دول ذات بيئة زراعية فقيرة, غير أنها تتمتع بمستوى غذائي مرتفع, مثل المملكة العربية السعودية , واليابان , وكوريا الجنوبية ,وسنغافورة. فالممكلة العربية السعودية كانت تنتج نحو سبعة ملايين طن من المحاصيل وتستورد مثلها , واليابان أنتجت من المحاصيل 13.4 مليون طن , واستوردت نحو 26.8 مليون طن في عام 1995 , وكوريا الجنوبية أنتجت 12.4 مليون طن , واستوردت نحو 6.9 مليون طن في نفس العام.
والصين قبل التحرير عانت الكثير من المجاعات,فقد عانى80 % من سكانها من مجاعات بدرجات متفاوتة في أزمنة مختلفة عبر تاريخها المديد , نتيجة لعوامل طبيعية وأخرى من صنع الإنسان , وقد كان إنتاج الصين من المحاصيل عند إنشاء الجمهورية نحو 1000 كيلوجرام للهكتار الواحد, ونصيب الفرد من المحاصيل لم يتجاوز 210 كيلوجرام في العام الواحد. وعبر المثابرة و والعمل الدؤوب فإن الصين اليوم قادرة على توفير الغذاء الكافي لما يناهز 22 % من سكان المعمورة, مع أن مساحتها المزروعة لا تتجاوز 7% من إجمالي مساحة الجمهورية . والصين الآن تعتبر أكبر دول العالم إنتاجا للمحاصيل ووصل إنتاج الفرد فيها إلى نحو 380 كيلوجرام في عام 1995 وهو معدل يفوق المتوسط العالمي , كما أن إنتاج اللحم , والمنتجات البحرية,والبيض , والفواكه , والخضروات بلغت نحو 41 كيلوجرام , و21 كيلوجرام , 14 كيلوجرام , و35 كيلوجرام , و198 كيلوجرام بالترتيب. وهذا يفوق المعدل العالمي,والواقع أن الصين في حقبة محدودة من الزمن لم توفر الغذاء فحسب, بل إن أبناءها استطاعوا الرفع من مستوى التغذية لدى الغالبية العظمى من السكان , مما أدى إلى الرفع من مستوى المعيشة بشكل عام . وللدلالة على ما وصلت إليه الصين من تقدم في مجال الإنتاج الزراعي يجدر بنا الإشارة إلى أن 30 % من إجمالي الزيادة في الإنتاج العالمي من المحاصيل في عام 1980 كان من نصيب الصين. لكن بعض المحللين يرون أن المياه وليست الأرض ستكون المحدد الفعلي لزيادة الإنتاج الزراعي والاستمرار فيه, ولاسيما في الجزء الشمالي من الصين, فهناك مساحات كبيرة من المناطق الزراعية في شمال الصين قد وصلت إلى الحد الأعلى من استخدام مياه الأمطار المتساقطة, لدرجة لا يمكن معها زراعة المزيد, ولهذا فلابد من استخدام أساليب ري حديثة, والاستفادة من مياه الصرف , واستغلال بعض المتكونات المائية ذات الطاقات الكافية والنوعية الجيدة من المياه.
الواقع أن الصين اليوم قادرة على إطعام نفسها بإنتاج ما تحتاجه من المحاصيل الحقلية مثل الأرز, والذرة , في ظل ما هو متاح لديها من عناصر إنتاجية مثل الأرض , والمناخ , واليد العاملة , والتقنية الحديثة من آلة , وبذور , وأسمدة , وأساليب ري. غير أن الميزة الربحية لبعض المنتجات الزراعية مثل بعض الخضروات والفواكه وغيرها قد تعمل على إحلالها محل المحاصيل الحقلية وكما يمكن الاستفادة من المبالغ المحصلة من تلك المنتجات في استيراد ما قد يحدث من نقص في إنتاج المحاصيل الحقلية.
ولهذا فإن نظرية الاكتفاء الذاتي من جميع المنتجات الزراعية لم تعد ممكنة في ظل العولمة , وتوفر وسائل النقل الحديثة , وهيمنة قوانين منظمة التجارة العالمية التي تتمتع الصين بعضويتها.
إن مشكلة الصين ليست في قدرتها على إطعام نفسها من عدمه, فهذه مرحلة قد تم تجاوزها , لكن المشكلة تمكن في احتمال تغير النمط الغذائي للشعب الصيني في ظل زيادة معدل الفرد,فالزيادة في الدخل ستدفع الكثير من الصينيين إلى استهلاك الكثير من اللحوم على حساب المحاصيل , وعندما ندرك أن إنتاج الكيلوجرام الواحد من اللحم, يحتاج إلى ستة كيلوجرام من الأعلاف, سيتضح مدى الحاجة الكبيرة إلى الإمعان في المشكلة التي قد تتجاوز حدود الصين إلى العالم أجمع, فعدد السكان في الصين سيبلغ نحو مليار وثلاثمائة مليون من البشر , وعندما يتحول هذا العدد الهائل إلى استهلاك اللحوم بدلا من الأرز والخبز والذرة, فإن الطلب على الأعلاف اللازمة لتغذية الحيوان سيكون كبيرا , قد تعجز الصين عن تلبيته, بل قد يعجز العالم بأسره عن ذلك. والواقع أن التطور الهائل الذي ستشهده الصين سيعمل على تقليل المساحة الزراعية وذلك باستغلال جزء من الأراضي الزراعية للاستفادة منها في الإنتاج الصناعي والخدمة , في الوقت الذي ستعمل فيه التقنية الحديثة على رفع إنتاجية الوحدة الواحدة من الأرض المزروعة , كما أن التحول إلى زراعة المنتجات ذات القيمة العالية , سيعمل على الحد من المساحات المزروعة بالمحاصيل , وبين هذا وذاك يمكن أن تكون المحصلة إيجابية,إلا أنم تغير النمط المعيشي والتحول إلى استهلاك المزيد من اللحوم سيكون العامل المؤثر في التوجيهات الإنتاجية الزراعية في العالم.
إن هذه التحولات الاقتصادية في الصين , ستعمل على إعادة التوزيع السكاني طبقا للتغيرات التي قد تنجم عن هذا التحول , فقد تنشأ صناعة ناجحة في منطقة غير مأهولة , فتعمل على جذب عدد من السكان من مناطق أخرى,كما أن استخدام التقنية الحديثة سيعمل على إنتاج الكثير من المنتجات التي كان يتعذر إنتاجها في مناطق معينة مما يعد وسيلة جذب أخرى لهذا العدد الهائل من البشر القاطن في مساحة محدودة من الأرض.