+ الرد على الموضوع
صفحة 4 من 5 الأولىالأولى ... 2 3 4 5 الأخيرةالأخيرة
النتائج 31 إلى 40 من 46

الموضوع: تاريخ العالم

  1. #31

    • عبير العبير غير متواجد حالياً
    • مساعد الادارة

    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    5,146

    افتراضي رد: تاريخ العالم


    الديانة السومرية

    تجسد تقاليد الكتابة واللغة أفكاراً وصوراً تجعل الناس يرون العالم بأساليب معينة، فتفتح لهم طرقاً وتحد طرقاً أخرى
    أي أن لها وزنها التاريخي.
    تعطينا ملحمة جلجامش بعض المعلومات عن آلهة بلاد الرافدين في زمن باكر، وكانت أهم الأفكار التي بقيت حية بفضل اللغة السومرية أفكاراً دينية على الأرجح في حوالي عام 2250 ق.م كان قد ظهر مجمع من الآلهة الفردية تجسد إلى حد ما عناصر الطبيعة وقواها، وسوف تبقى هذه الآلهة هي العمود الفقري لديانة بلاد الرافدين طوال آلاف السنين، وبداية اللاهوت.
    كان للمدن في الأصل آلهتها الخاصة بها، التي كانت تشكل تسلسلاً هرمياً فضفاضاً يعكس النظرة إلى المجتمع البشري ويساهم في صياغتها أيضاً، وقد أُعطي لكل منها نشاط أو دور خاص، فكان هناك إله للهواء، وإله للماء، وإله للمحراث وآلهة للحب والتكاثر، ولكن للحرب أيضاً وعلى قمة هذا الهرم كان يتربع ثالوث مؤلف من ثلاثة آلهة مذكرة كبرى هي: أب الآلهة، و”السيد الريح” الذي لا يمكن فعل شيء من دونه، وإله للحكمة والمياه العذبة التي تعني الحياة نفسها بالنسبة إلى سومر.
    وإن هذه الصورة لدليل على نظرة ما إلى عالم ما فوق الطبيعة لا مثيل لها في تعقيدها وغناها في ذلك الزمان الباكر.
    ثم أن هناك ملاحظة هامة أخرى هي أن المعابد كانت تزداد حجماً وفخامة بمرور القرون ومن أسباب ذلك أنهم كانوا يبنون المعابد الجديدة على بقايا القديمة منها، وكانوا يقدمون الذبائح لضمان جودة المحاصيل، وبلغنا أن أحدهم قد بني بأرز مجلوب من لبنان ونحاس من الأناضول.
    لن تجد في ذلك الزمان مجتمعاً أعطى الدين مثل هذه المكانة البارزة، أو كرس مثل هذا القدر من موارده الجماعية لدعمه، وربما كان السبب أنه لا يوجد مجتمع قديم أعطى الناس الشعور بمثل هذا الاعتماد المطلق على مشيئة الآلهة.
    إذ يبدو أن بلاد الرافدين السفلى كانت في الأزمنة القديمة أرضاً مسطحة رتيبة مكونة من سهول الطين والمستنقعات والماء، فلم تكن ثمة جبال تسكن فيها الآلهة على الأرض مع البشر، بل السماء الخاوية في الأعلى، وشمس الصيف التي لا ترحم، والرياح العاتية، والفيضانات التي لا تقاوم، وهجمات القحط المدمرة التي لا يملكون ردها إلا بأوهى الأسباب.

    وكانت الآلهة تعيش في قوى الطبيعة هذه، ويمكن التقرب إليها في الأماكن العالية الوحيدة المشرفة على السهول، أي في الأبراج والزِّقُّرات المبنية بالقرميد، والتي تجد انعكاساً ضعيفاً لها في برج بابل في الكتاب المقدس، فليس من الغريب إذاً أن يكون السومريون قد اعتبروا أنفسهم شعباً خلق ليكدح من أجل الآلهة.


    آلهة من آلهات سومر



    كانت الآلهة تصويراً فكرياً لمحاولات السيطرة على الطبيعة، ولو كان من المستحيل على أهل بلاد الرافدين أن يعبروا عن ذلك بهذه العبارة، أي أنها كانت محاولات لمقاومة كوارث الفيضانات والعواصف الرملية المفاجئة، وضمان استمرار دورة الفصول عن طريق تكرار احتفال الربيع الكبير، حينما تزوج الآلهة من جديد ويعاد تمثيل دراما الخلق، فيضمنون عندئذٍ استمرار العالم لسنة أخرى؛ وما كان لديهم من خيار آخر.
    في زمن لاحق صار الناس يبغون من الدين أن يساعدهم على مواجهة رعب الموت الذي لامفر منه، ويبدو أن السومريين والذين ورثوا عنهم أفكارهم الدينية كانوا يرون العالم الآخر مكاناً حزيناً كئيباً، وهنا تكمن جذور فكرة جهنم التي ستظهر في زمن لاحق. ولكننا نعلم أيضاً أن ملكاً وملكة سومريين من منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد قد لحقت بهما حاشيتهما إلى القبر حيث دفنوا معهما، ربما بعد تناول دواء ما، فلعلهم كانوا يؤمنون بأن الموتى يذهبون إلى مكان تفيدهم فيه الحاشية العظيمة والمجوهرات البديعة.
    أما من الناحية السياسية للديانة السومرية، فقد كانت الأرض كلها جوهرياً ملكاً للآلهة التي كان الملك وكيلاً عنها والأرجح أنه كان ملكاً كاهناً مثلما كان قائداً محارباً، ومن حوله كانت طبقة الكهنة التي تقوم برعاية مهارات ومعارف خاصة، ومن هذه الناحية أيضاً كانت سومر منشأ تقليد آخر، هو تقليد عرّافي الشرق ومتنبئيه وحكمائه، وكان هؤلاء مسؤولين عن أول جهاز تعليم منظم ومبني على الاستذكار والنسخ.


    لِنسعَ إخوتي إلى العلا هيا
    نتجاوز الضياء مداه ونعدو الثريا

  2. #32

    • عبير العبير غير متواجد حالياً
    • مساعد الادارة

    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    5,146

    افتراضي رد: تاريخ العالم


    الحياة في سومر

    من الأشياء الأخرى التي نتجت عن الديانة السومرية أول تصوير للبشر يشبههم شبهاً حقيقياً، وتراهم أحياناً مجمعين في مواكب، وبذلك تأسس واحد من المواضيع الكبرى في فن التصوير، فضلاً عن موضوعين آخرين بارزين، هما الحرب وعالم الحيوان. لقد رأى البعض أيضاً في صور الناس في سومر الصفات النفسية التي مكنتهم من تحقيق الإنجازات المدهشة لحضارتهم، أي اندفاعهم نحو التفوق والنجاح، ولكن الشيء الذي تراه بشكل أكيد في الفن السومري هو الحياة اليومية التي كانت خافية عنك في الأزمنة الأبكر، فإذا أخذت بعين الاعتبار اتصالات سومر الواسعة وتشابه الحياة الزراعية بينها وبين الشعوب المجاورة لها، فقد تنبئك تلك الرسوم عن صور الحياة كما كانت تعاش في جزء كبير من الشرق الأدنى القديم. تظهر الأختام والتماثيل والرسوم شعباً يرتدي في العادة تنورة من الفرو، لعله فرو الماعز أو الغنم
    وتضع النساء أحياناً ثنية منها فوق أحد الكتفين، أما الرجال فهم حليقون عادة ولكن ليس دائماً، ويرتدي الجنود الزي نفسه، ولكنهم يحملون أسلحة ويعتمرون أحياناً قبعة جلدية مستدقة الطرف. وأما الرفاهية فيبدو أنها كانت تتمثل بوقت الفراغ والممتلكات، خصوصاً المجوهرات، التي يبدو أن الغرض منها كان الإشارة إلى المرتبة، فإذا كان الأمر كذلك فإنما هو علامة أخرى على تزايد تعقيد المجتمع.

    كان رأس العائلة هو الزوج، الذي يتخذ امرأته بعقد يبرمه مع أهلها، ويرأس أهل بيته من أقارب وعبيد، وهذا هو النمط الأبوي الذي بقي شائعاً حتى وقت قريب جداً في أنحاء كثيرة من العالم. إلا أن تغيرات لافتة قد طرأت عليه، فيما بعد، إذ يبدو أن النساء السومريات كن أقل انسحاقاً من أخواتهن في كثير من مجتمعات الشرق الأدنى حتى في أزمان لاحقة ربما هناك اختلاف بين التقاليد السامية وغير السامية في هذا المجال.
    توحي قصص السومريين عن آلتهم بمجتمع شديد الوعي لجاذبية المرأة الجنسية، والحقيقة أن السومريين كانوا أول شعب كتب عن عاطفة الحب الجنسي، وقد منح قانونهم الذي يمكن تتبع أثره بعد عام 2000 ق.م بزمن طويل النساء حقوقاً هامة استمرت حتى الأزمنة بعد السومرية، فلم تكن المرأة مجرد متاع، بل حتى العبدة لها حقوق إذا كانت أماً لأولاد رجل حر. وكان يحق للمرأة مثل الرجل أن تطلب الانفصال، وأن تتوقع معاملة عادلة بعد الطلاق. صحيح أن زنى الزوجة يعاقب بالموت ولا يعاقب به زنى الزوج، إلا أن هذا الفرق يمكن فهمه في ضوء الحرص على الميراث والأملاك. ولم يبدأ قانون بلاد الرافدين بالتشديد على أهمية العذرية وفرض الحجاب على النساء المحترمات إلا بعد ذلك بزمن طويل، وكان هذان الأمران علامة على أن دور المرأة في الحياة يزداد قسوة وتقييداً لها.

    عند نهاية تاريخهم كحضارة مستقلة كان السومريون قد تعلموا العيش في جماعات كبيرة، ويقال إن إحدى المدن كانت تحوي ستة وثلاثين ألف ذكر، وقد تطلب هذا الأمر مهارات كبيرة في البناء، وخاصة في تشييد الصروح الضخمة.
    ولم يكن في جنوب بلاد الرافدين حجارة، لذلك كان أهلها في البداية يبنون بالقصب الذي كانوا يلصقون بعضه ببعض بواسطة الطين، ثم انتقلوا إلى استخدام لبن الصلصال المجفف بأشعة الشمس.
    وعند نهاية الحقبة السومرية كانت تقنية البناء بالصلصال قد بلغت درجة من التطور سمحت بتشييد أبنية كبيرة جداً لها أعمدة وسطوح، وأعظمها زقّرة أور، التي كان لها طابق علوي يبلغ ارتفاعه أكثر من مئة قدم
    ، وقاعدة طولها مئتا قدم وعرضها مئة وخمسون.
    وقد اكتشفت أول عجلة معروفة لصنع الفخار في أور، فكانت تلك خطوة تقنية أخرى، وكان هذا أول استغلال نعرفه للحركة الدائرية، وعليه ارتكزت صناعة الفخار بالجملة، فأصبحت مهنة رجال من بعد أن كانت مهنة نساء فيما مضى وسرعات ما استخدمت العجلة في النقل بحلول عام 3000 ق.م.
    ومن اختراعات السومريين الأخرى، اختراع الزجاج كما كان حرفيوهم المختصون يسبكون البرونز في بداية الألف الثالثة ق.م.

    وتثير هذه الحقيقة أسئلة أخرى: فمن أين أتت المواد الأولية؟ إذ ليست هناك أية معادن في جنوب بلاد الرافدين، وحتى في الأزمنة النيوليتية لابد أن تكون المنطقة قد استوردت الصوان والسبج لصنع الأدوات الزراعية. من الواضح إذاً وجود شبكة واسعة من الاتصالات الخارجية، مع شعوب الخليج الفارسي من جهة، ومع شرق المتوسط وسورية البعيدين من جهة أخرى.
    ومن المؤكد أن بلاد الرافدين كانت في عام 2000 ق.م تحصل على البضائع من وادي الهندوس أيضاً ولكن ربما بصورة غير مباشرة، وتدل هذه الأمور بالإضافة إلى بقايا بعض الوثائق المتفرقة على بدايات نشوء نظام تجاري بين المناطق مابرح ينسج أنماطاً من الاعتماد الاقتصادي المتبادل.

    إلا أن أساس المجتمع قد ظل الزراعة من أجل الاستهلاك المحلي، فكان الشعير والقمح والدخن والسمسم تزرع بكميات كبيرة، وربما كان الشعير هو المحصول الأساسي، وهذا يفسر كثرة الأدلة على وجود الكحول في بلاد الرافدين القديمة. كانت التربة التي يخلفها الفيضان سهلة يمكن زراعتها زراعة مكثفة من دون الحاجة لأدوات حديدية، إلا أن المساهمة الكبرى للتقنية هنا كانت في مجالات الري والبناء ونمو نظام الحكم. وقد تراكمت هذه المهارات رويداً رويداً، ولا ننس أن الأدلة على الحضارة السومرية تمتد على مدى أكثر من ألف وخمسمائة عام من التاريخ، وإذا كنا تحدثنا عنها حتى الآن كأن شيئاً لم يحدث خلالها، أو كأنها كانت وحدة ثابتة لم تتغير، فإنها بالطبع لم تكن كذلك.
    فمهما كنا متحفظين حول بطء التغير في العالم القديم، والذي قد يبدو لنا جامداً اليوم، فإننا نعلم أن تلك كانت خمسة عشر قرناً من التغير الكبير في بلاد الرافدين، ولو بقي جزء كبير منها غامضاً وتواريخه تقريبية.


    لِنسعَ إخوتي إلى العلا هيا
    نتجاوز الضياء مداه ونعدو الثريا

  3. #33

    • عبير العبير غير متواجد حالياً
    • مساعد الادارة

    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    5,146

    افتراضي رد: تاريخ العالم

    التغير السياسي

    يمكنك هنا تمييز ثلاث مراحل عريضة، فالمرحلة القديمة لسومر قد استمرت بالتقريب من عام 3360ق.م إلى عام 3400ق.م، وهي قصة من الحروب بين دول المدن وما يعتريها من بزوغ وأفول.
    ومن الأدلة على ذلك المدن المحصنة واستخدام العجلة في التقنية الحربية في عربات فظة ذوات عجلات أربع.
    نحو منتصف هذه المرحلة بدأت السلالات المحلية تثبت أقدامها بقدر من النجاح، ويبدو أن المجتمع السومري كان فيه بالأصل نوع من القاعدة التمثيلية أو حتى الديمقراطية، إلا أن النمو المتزايد قد أدى إلى تميز الملوك عن الحكام الكهنة الأسبق، وربما بزغ هؤلاء الملوك كأمراء حرب عينتهم المدن لقيادة قواتها، ثم بقوا متشبثين بالسلطة بعدما زالت حالة الطوارئ التي استدعتهم، ومنهم انبثقت السلالات التي راحت تتقاتل فيما بينها.

    ثم يظهر فجأة رجل عظيم يفتتح مرحلة جديدة هو سرجون الأول، الذي كان ملكاً على مدينة تقع على قسم أعلى من الفرات اسمها أكد، لم يكتشف موقعها بعد. لقد فتح سرجون المدن السومرية بين عامي 2400 و 2350 ق.م واستهل مرحلة السيادة الأكدية عليها. وكان شعبه من القبائل السامية التي طالما ضغطت على حضارات وديان الأنهار من الخارج في الماضي. ثمة رأس محفور يعتقد أنه يمثله، فإذا كان صحيحاً فهي من أولى صور الملوك، كان سرجون الرجل الأول في سلسلة طويلة من بناة الإمبراطوريات، وقد زعموا أنه أرسل قواته حتى مصر وإثيوبيا.
    لم يكن حكمه مبنياً على السيادة النسبية لإحدى دول المدن على غيرها، بل إنه قد أسس إمبراطورية موحدة دمجت المدن كلها في كيان واحد، وخلفت أسلوباً جديداً في الفن السومري يتميز بموضوع انتصارات الملوك.
    إلا أن هذه الإمبراطورية الأكدية لم تكن نهاية سومر، بل فترة فاصلة وثاني مراحلها الأساسية، وهي تعبر عن إنجاز جديد في التنظيم، ففي عهد سرجون كانت قد ظهرت دولة حقيقية، وكانت السلطات الدنيوية والدينية قد افترقتا افتراقاً كاملاً، فظهرت القصور إلى جانب المعابد في المدن السومرية، وكان الملوك يستمدون سلطتهم من الآلهة.



    الملك سرجون


    إن اختراع الجندية كمهنة تحترف قد لعب على الأرجح دوراً في التطور السابق، فإنك ترى على صروح أور فرق المشاة المنضبطة تسير ضمن تشكيلات عسكرية، يغطي كل ترس فيها طرف الترس المجاور له، والرماح كلها مسددة إلى الأمام. كانوا يتباهون بأن لدى سرجون 5400 جندي يأكلون بحضرته في قصره، وكان هذا الأمر بلا ريب نتيجة للغزوات التي أمنت الموارد اللازمة للإنفاق على قوة كهذه.
    كانت سلطة الدولة قد نشأت بالأصل من التحديات والحاجات الخاصة ببلاد الرافدين، ومن الواجب الأول للحاكم في تنظيم الأشغال الكبرى من أجل الري والسيطرة على الفيضانات، وإن هذه السلطة القادرة على تعبئة المجهود البشري اللازم أمكنها أن تعبئ الجنود أيضاً. وقد ازداد الميل للاحتراف مع زيادة الأسلحة تعقيداً وكلفة، ومن أسباب نجاح الأكديين استعمالهم سلاحاً جديداً هو القوس المركبة المصنوعة من شرائح الخشب وقرن الحيوان.




    يوم في أكاد

    لقد أطيح بالهيمنة الأكدية بعد سرجون بقرون ونصف القرن، أي على عهد ابن حفيده، ويبدو أن ذلك الأمر قد تم على أيدي شعوب جبلية تسمى الشعوب الغوتية. فبدأت عندئذٍ ثالث مراحل سومر وآخرها، وهي التي يسميها العلماء ”المرحلة السومرية الجديدة” فعادت الهيمنة من جديد إلى السومريين الأصليين الذين كان مركزهم في أور، وقد استمرت هذه الهيمنة حوالي مئتي سنة أخرى، أي حتى عام 2000 ق.م. إن أول ملك من سلالة أور الثالثة مارس هذه السيادة قد سمى نفسه ملك سومر وأكد، ولا نعلم تماماً ماذا كان هذا اللقب يعني من الناحية العملية. يبدي الفن السومري في هذه المرحلة ميلاً جديداً لتمجيد سلطة الأمير، كما صار الحكام يسعون لتجسيد عظمتهم في زقّرات أكبر وأفضل.
    وتظهر الوثائق الإدارية الميراث الأكدي أيضاً، وربما كان الطموح إلى ملكية أوسع انعكاساً لهذا الميراث، فقد كانت البلاد الخاضعة لآخر ملوك أور الناجحين تمتد من شوش، سوس، على حدود أرض عيلام على القسم السفلي من دجلة
    حتى بيبلوس
    على ساحل لبنان.




    الأمبراطورية الأكادية في عهد سيرغون


    كانت هذه حقبة أفول الحضارة الأولى، وهي لم تختف بل سوف تضيع فرديتها في التاريخ العام لبلاد الرافدين والشرق الأدنى، وقد انتهت بذلك حقبة كبرى من الإبداع.
    ومن بعد هذه المنطقة الصغيرة نسبياً سوف يتسع أفق تاريخنا. كان الأعداء يعجون على حدود سومر، وفي نحو عام 2000 ق.م جاء العيلاميون وسقطت أور بأيديهم.
    ونحن لا نعلم السبب، ولكننا نعلم أن سقوطها قد تم من بعد عداوة متقطعة استمرت 1000 عام، وقد اعتبر سقوط أور هذا نتيجة صراع للسيطرة على الطرق المؤدية إلى مرتفعات إيران والمعادن التي يحتاجها أهل بلاد الرافدين.
    وكانت هذه على كل حال نهاية أور ونهاية التقاليد السومرية المتميزة، التي اندمجت الآن، في دوامات عالم مكون من حضارات عديدة.
    إلا أن سومر كانت طوال خمسة عشر قرناً تقريباً قد وضعت أول تربة للحضارة في بلاد الرافدين، مثلما استصلح أسلافها الأرض نفسها في عصر ما قبل الحضارة.
    لقد خلف السومريون كتابة، وأدباً ، وميثولوجيا، وصروحاً ضخمة ، وفكرة عن العدالة والشرعية، وجذور تقليد ديني عظيم.وإن هذه الأشياء كلها لتشكل سجلاً رائعاً، وسوف تكون بذرة لأشياء كثيرة غيرها، لأن انتشار الحضارة كان قد بلغ شوطاً بعيداً عندما ماتت سومر.



    بلاد الرافدين بعد سومر


    كان الشرق الأدنى عندئذٍ خليطاً من الشعوب مابرح يزداد تعقيداً، كان الأكديون قد اندفعوا بالأصل من منبع الشعوب السامية الكبير في شبه الجزيرة العربية لينتهوا في بلاد الرافدين، أما الغوتيون الذين شاركوا في الإطاحة بالأكديين فكانوا قوقازيين من الشعوب الأصلية في المنطقة.
    وأما الأموريون (العموريون) فكانوا شعباً سامياً انتشر في طول المنطقة وعرضها، وانضم إلى العيلاميين للإطاحة بجيوش أور وتحطيم سطوتها، وقد ثبتوا أقدامهم في دمشق وآشور، أي القسم العلوي من بلاد الرافدين، وفي بابل أيضاً سلسلة من الممالك الممتدة حتى ساحل فلسطين، بينما بقوا يتنازعون على جنوب بلاد الرافدين مع العيلاميين.
    أما في الأناضول فكان جيرانهم الحثيون وهم شعب هندي أوروبي عبر من البلقان في الألف الثالثة.
    وعلى حواف هذه الصورة المتداخلة كانت توجد شعوب أخرى قوية.



    يتبع



    لِنسعَ إخوتي إلى العلا هيا
    نتجاوز الضياء مداه ونعدو الثريا

  4. #34

    • عبير العبير غير متواجد حالياً
    • مساعد الادارة

    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    5,146

    افتراضي رد: تاريخ العالم

    بابل
    من معالم قصتنا ظهور إمبراطورية جديدة في بلاد الرافدين، هي إمبراطورية بابل. ومن ملوكها حمورابي، الذي تكفي شهرته كصاحب شريعة لكي تضمن له مكاناً في التاريخ ولو لم نكن نعرف عنه شيئاً غيرها. فالحق أن شريعته هي أقدم تعبير مكتوب عن مبدأ العين بالعين. كما أنه أول حاكم وحد بلاد الرافدين كلها، ومع أن الإمبراطورية لم تعمر طويلاً فسوف تصبح مدينة بابل منذ أيامه المركز الرمز لشعوب الجنوب السامية. ربما ابتدأ حكم حمورابي في عام 1792 ق.م وقد حافظ خلفاؤه على تماسك الأمور إلى ما بعد 1600 ق.م، عندما عادت بلاد الرافدين فتقسمت من جديد.




    مدينة بابل

    كانت الإمبراطورية البابلية الأولى تمتد في أوجها من سومر والخليج حتى آشور، أي القسم الأعلى من بلاد الرافدين شمالاً، وكان حمورابي يحكم مدينتي نينوى ونمرود على نهر دجلة، ومدينة ماري في أعلى الفرات، كما كان يسيطر على هذا النهر حتى أقرب نقطة منه إلى حلب. كان طول هذه الدولة نحو سبعمئة ميل وعرضها نحو مئة، أي أنها كانت دولة كبيرة، بل هي في الحقيقة أكبر دولة ظهرت في المنطقة حتى ذلك الزمان، لأن أور لم تكن أكثر من تجمع فضفاض من المدن. كان الهيكل الإداري في بابل محكماً، وإن شريعة حمورابي لجديرة بشهرتها ولو أن للصدفة دوراً في هذا. لقد كانت هذه الشريعة منقوشة في الحجر ومنصوبة في ساحات المعابد لكي يراجعها الشعب، مثلما كان الأمر على الأرجح في المجموعات الأقدم من الأحكام والقوانين، والتي لم تبق منها إلا نتف قليلة. كانت شريعة حمورابي أطول وأحسن تنظيماً من المجموعات الأسبق، وهي تضم نحو 282 بنداً تعالج فيه مجالاً واسعاً من الأمور معالجة شاملة: مثل الأجور، الطلاق، أتعاب العناية الطبية، وأمور كثيرة غيرها. إلا أنها لم تكن تشريعاً، بل إعلاناً عن قانون موجود، ويجب ألا يغيب هذا الأمر عن بالنا عندما نسميها ” شريعة”، أي أن حمورابي قد جمع قوانين كانت دارجة أصلاً ولم يبتكرها من لاشيء.



    تمثال لحمورابي

    لقد أمنت هذه المجموعة من القوانين المبنية على العرف والعادة خطاً أساسياً من خطوط الاستمرارية في تاريخ بلاد الرافدين، ومن المؤسف أن عقوباتها قد ازدادت قسوة بمرور الزمن على ما يبدو بالقياس إلى قوانين سومر، أما من النواحي الأخرى فقد استمر التقليد السومري في بابل في مجال القانون.


    المملكة البابلية في القرن الثالث عشر قبل الميلاد

    يتضمن هذا القانون بنوداً تتعلق بالعبيد، لأن بابل كانت تقوم على العبودية مثل جميع الحضارات القديمة، ومثل كثير من حضارات الأزمنة اللاحقة أيضاً. كانت العبودية هي المصير الذي ينتظر الخاسر عادة في حروب التاريخ الباكر، ونساءه وأولاده أيضاً. وعلى عهد الإمبراطورية البابلية الأولى كان هناك أسواق منتظمة للعبيد، وكانت الأسعار الثابتة دليلاً على انتظام هذه التجارة. وكان العبيد الآتون من مناطق معينة يثمنون بشكل خاص. ورغم أن سطوة السيد على العبد كانت مطلقة، فإن بعض العبيد في بابل كانوا يتمتعون باستقلال اقتصادي ملحوظ، ويعملون بالتجارة، بل قد يملكون بدورهم عبيداً لحسابهم. وكانت لهم حقوق قانونية ولو أنها ضيقة.
    من الصعب أن نعرف ماذا كانت العبودية تعني من الناحية العملية، ولا فائدة من إطلاق أحكام عامة، لأن الأدلة تشير إلى أن العبيد كانوا يقومون بمهام متنوعة، وإذا كانت حياة أكثرهم شاقة فقد كانت حال أكثر الناس على الأرجح.
    لقد كانت الحضارة في الأزمنة القديمة تقوم على استغلال كبير للإنسان من قبل الإنسان، وإذا لم يشعر الناس بأن هذا الوضع وحشي، فذلك لأن أحداً ما كانت لتخطر بباله طريقة أخرى لتسيير الأمور.




    حمورابي



    نص من شريعة حمورابي

    الفكر البابلي

    مازالت حضارة بابل أسطورة من العظمة والأبهة، فقصر ماري الكبير في القسم الأعلى من الفرات كانت له أسوار حول ساحاته تبلغ سماكتها أربعين قدماً* في بعض الأماكن، وكان فيه نحو ثلاثمئة غرفة تشكل مجمعاً واحداً، تصرفه أنابيب مبطنة بالقار تجري على عمق ثلاثين قدماً**، وكان يغطي مساحة 150×200 ياردة***. كما وجدت فيه كميات كبيرة من رُقُم الصلصال التي تكشف لنا أعمال حكومة بابل، وهي تعطينا أيضاً أدلة على حياة الفكر، ففي ذلك الحين أخذت ملحمة جلجامش الشكل الذي نعرفها فيه.
    لقد دفع علم التنجيم في بابل مراقبة الطبيعة إلى الأمام، كان البابليون يأملون بمعرفة مصائرهم من خلال مراقبة النجوم فأسسوا بذلك علماً هو علم الفلك، ووضعوا سلسلة هامة من الأرصاد الفلكية.
    فبحلول عام 1000 ق.م كان من الممكن التنبؤ بخسوف القمر، وخلال قرنين أو ثلاثة بعد ذلك كانت مسارات الشمس وبعض الكواكب قد حددت بدقة لافتة بالنسبة إلى مواقع النجوم التي تبدو ثابتة.
    وقد اعتمدت الرياضيات في بابل على الإنجازات الفكرية للسومريين، الذين ندين لهم بطريقة التعبير عن الرقم بحسب موقعه بالإضافة إلى شكله
    (كما يدل الرقم 1 مثلاً على الواحد أو العشر أو العشرة أو غيرها من القيم بحسب موقعه بالنسبة إلى الفاصلة العشرية).
    كان السومريون يعلمون عن النظام العشري ولكنهم لم يستغلوه، وقد توصلوا إلى طريقة لتقسيم الدائرة إلى ستة أقسام متساوية، ثم طور البابليون هذا الاكتشاف فقسموها إلى 360 درجة وقسموا الساعة إلى ستين دقيقة، كما أنهم وضعوا جداول في الرياضيات والهندسة الجبرية ذات منفعة عملية كبيرة.


    لِنسعَ إخوتي إلى العلا هيا
    نتجاوز الضياء مداه ونعدو الثريا

  5. #35

    • عبير العبير غير متواجد حالياً
    • مساعد الادارة

    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    5,146

    افتراضي رد: تاريخ العالم

    بقايا مدينة ماري

    كان علم الفلك قد ابتدأ في المعبد، في تأمل حركة الأجرام السماوية التي تعلن قدوم احتفالات الخصب والبذار، وقد ظلت الديانة البابلية أيضاً وثيقة الصلة بالتقليد السومري. يبدأ خلق العالم عند البابليين، كما هي الحال في سومر، من غمر من المياه -وثمة إله يعني اسمه ”الطمي”- ثم يُصنع الإنسان في النهاية كعبد للإلهة، وفي إحدى النسخ تصنع الآلهة البشر في قوالب الصلصال، مثلما تصنع قطع القرميد، وكانت هذه الصورة للكون ملائمة للملكية المطلقة. كان لبابل إلهها مثل المدن القديمة، وهو مردوك، الذي شق طريقه رويداً رويداً، إلى أن تصدر منافسيه من آلهة بلاد الرافدين. وقد استغرق هذا الأمر زمناً طويلاً، وقال حمورابي إن آلهة سومر قد منحت مردوك رئاسة مجمع آلهة بلاد الرافدين، ورجته أن يحكم الناس جميعاً من أجل خيرهم. ومن بعد القرن الثاني عشر ق.م كانت مكانة مردوك لا غبار عليها في العادة. في هذه الأثناء بقيت اللغة السومرية مستخدمة في طقوس بابل الدينية، وفي أسماء الآلهة والنعوت التي كانت تتمتع بها.

    الإله مردوك
    إلا أن إنجازات حمورابي لم تعمر طويلاً من بعده، كان قد أطاح بمملكة أمورية، التي تأسست في أشور عند نهاية هيمنة أور، ولكن هذا النجاح كان مؤقتاً. وبقيت آشور طوال ألف عام بعدها ساحة للقتال والغنيمة معاً، إلى أن طغت على بابل في النهاية، فانتقل مركز ثقل تاريخ بلاد الرافدين إلى الشمال بشكل حاسم. أما الحثيون الذين كانوا قد ثبتوا أقدامهم في الأناضول في الربع الأخير من الألف الثالثة ق.م، فقد اندفعوا ببطء إلى الأمام خلال القرون القليلة التالية، وتبنوا هم أيضاً الكتابة المسمارية وكيفوها لكتابة لغتهم الهندية الأوروبية.
    وفي عام 1700 ق.م كانوا يحكمون البلاد الواقعة بين سوريا والبحر الأسود، ثم وجهوا غزواتهم نحو بابل التي كانت قد ضعفت وتقلصت، إلى أن قضوا أخيراً على سلالة حمورابي وإنجازاته.

    وعندما انسحب الحثيون حكمت شعوب أخرى بلاد الرافدين وتنازعت عليها طوال أربعة قرون غامضة لا نعلم عنها إلا القليل، صار خلالها انفصال آشور عن بابل نهائياً، وسوف تكون لهذا الانفصال أهمية كبرى في الألف التالية. وفي ذلك الحين كانت بؤرة تاريخ العالم قد انزاحت بعيداً عن بلاد الرافدين.

    المملكة الحثية


    لِنسعَ إخوتي إلى العلا هيا
    نتجاوز الضياء مداه ونعدو الثريا

  6. #36

    • عبير العبير غير متواجد حالياً
    • مساعد الادارة

    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    5,146

    افتراضي رد: تاريخ العالم



    أولى حضارات آسيا
    إذا نظرت إلى العالم في عام 1000 ق.م ، وهو تاريخ اعتباطي، وجدت أن الحضارة كانت قد ترسخت فيه إلى الشرق من الهلال الخصيب ومصر، فكانت كل من الهند والصين قد طورت لنفسها أنماطاً متميزة من الحياة المتحضرة، ومختلفة تماماً عن تلك الحضارات الأسبق الواقعة إلى الغرب منها، ولو حصلت اتصالات سطحية بها. وكانت الثقافات الأصلية في الصين والهند قد خلقت فيهما طرقاً في التفكير والسلوك متميزة تماماً وممتدة على رقعة شاسعة من الأرض. وكان هذان البلدان هما قلبا المنطقتين الجغرافيتين (ثم الثقافيتين) الأساسيتين اللتين تقسمان آسيا إلى الشرق من أفغانستان ومرتفعات إيران وجنوب سيبيريا. فالمنطقة الهندية تحدها جبال الهيمالايا وسلاسل الجبال المجاورة لها، أي مرتفعات بورما وسيام* وسواحل أرخبيل اندونيسيا. أما المنطقة الأساسية الثانية في شرق آسيا فهي تتكون من أرض الصين الكبيرة، ولكنها تشمل أيضاً كوريا واليابان والهند الصينية.
    وطوال القسم الأكبر من الأزمنة التاريخية كانت الحضارات التي تظهر في الهند والصين تنزع إلى السيطرة على هذين الجزئين الكبيرين من آسيا، وهما منطقتان متنوعتان تنوعاً كبيراً من حيث طبيعة الأرض والمناخ الجغرافية، وتضمان أكبر أنهار العالم، مثل الهندوس
    والغانح والبرهمابترا والميكونغ واليانغ تسي كيانغ والنهر الأصفر وجميعها تصرف كميات هائلة من المياه من مرتفعات آسيا الداخلية، وقد كان وادياً اثنين من هذه الأنهر موقعين لأول أشكال الحياة المتحضرة في آسيا.




    خارطة الهند والصين وأندونيسيا ودول شرق آسيا

    وإذا نظرت إلى شبه القارة الهندية نظرة أقرب وجدتها تعادل أوربا في الحجم تقريباً، وقد بقيت معزولة لزمن طويل بسبب جغرافيتها، فلم تُغْزَ إلا نادراً من خلال ممرات الشمال الغربي، وذلك حتى القرن السادس عشر.
    إن جبال هذه المنطقة –خاصة منها الأبعد نحو الشمال- هي من أعلى الجبال في العالم، وإلى الشمال الشرقي تمتد الأدغال. أما الضلعان الآخران لشبه القارة الهندية فهما يطلان على المحيط الهندي الواسع. وقد منحتها هذه الجغرافية مناخاً متميزاً ومتنوعاً جداً ولكنه استوائي، فالجبال الشمالية تصد الرياح الجليدية القاسية الآتية من آسيا الوسطى، ولو أن شمال الهند قد يكون أحياناً قارص البرودة في الشتاء، بينما تجد السواحل الطويلة مفتوحة أمام الغيوم المحملة بالمطر، والتي تجري إليها من المحيط لتروي سهول الشمال الجافة بأمطارها الموسمية السنوية.
    ويحدد هذا الترتيب ساعة الهند المناخية وبالتالي الزراعية، فيأتي بالمطر خلال أكثر شهور السنة حرارة، ويؤمن لمرتفعات الدكن الجنوبية غطاء من الغابات الكثيفة، ويبدو أن الزراعة قد ترسخت أول ما ترسخت في سهول نهر الهندوس الغرينية في الشمال الغربي.

    أما منطقة الصين الثقافية فهي أكبر حتى من هذه، وهي أكبر من الولايات المتحدة، إذ أن بين بكين وهونغ وكونغ إلى الجنوب حوالي 1200 ميل* في خط مستقيم. وتضم هذه الأرض الشاسعة مناخات كثيرة ومناطق كثيرة، ففي الصيف يكون الشمال حارقاً وجافاً بينما يكون الجنوب رطباً ومعرضاً للفيضانات، ويبدو الشمال عارياً ومغبراً في الشتاء بينما يبقى الجنوب أخضر على الدوام. وكانت الحضارة في الصين تنزع دوماً إلى الانتشار من الشمال إلى الجنوب، وإلى التأثر بتيارات آتية من منغوليا وآسيا الوسطى. وينقسم هذا البلد الكبير إلى ثلاثة أقسام طبوغرافية أساسية تحددها وديان ثلاثة أنها كبرى تصرف القسم الداخلي من البلاد، وتجري عبرها من الغرب نحو الشرق تقريباً.
    هذه الأنهار هي من الشمال إلى الجنوب: الهوانغ هو أو النهر الأصفر، واليانغ تسي كيانغ، والسيكيانغ، ولم تساعد هذه الأنهار في ربط الصين بالعالم الخارجي إلى أن جاء الأوروبيون، لذلك بقيت الصين زمناً طويلاً منعزلة مثلها مثل الهند. وتغطي الجبال قسماً كبيراً منها، ومازالت حدودها تمتد بلا انتظام عبر سلاسل كبيرة من الجبال والمرتفعات وعلى امتدادها، إلى في أقصى الجنوب والشمال الشرقي.
    وتقع منابع نهر اليانغ تسي كيانغ مثل منابع الميكونغ في مرتفعات كون لون شمالي التيبت. وإن هذه الحدود الجبلية هي عوامل عزل كبيرة، وهي تشكل قوساً لا يقطعها إلا جريان النهر الأصفر نحو الجنوب آتياً إلى الصين من وسط منغوليا.



    لِنسعَ إخوتي إلى العلا هيا
    نتجاوز الضياء مداه ونعدو الثريا

  7. #37

    • عبير العبير غير متواجد حالياً
    • مساعد الادارة

    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    5,146

    افتراضي رد: تاريخ العالم


    حضارة الهند الباكرة

    إن الحضارة في الهند أقدم منها في الصين، ولكن تاريخها أكثر تفككاً. ومازالت الهند القديمة تعيش بيننا من بعض النواحي بعكس جميع مراكز الحضارات الباكرة الأخرى.
    فحتى بداية القرن العشرين كان كثير من الهنود يعيشون مثل جميع أجدادنا القدامى، أي على الصيد والجمع الطعام ومازالت العربة التي يجرها الثور وعجلة صنع الفخار في قرى كثيرة حتى اليوم مثل التي كانت مستخدمة منذ أربعة آلاف سنة على ما يبدو، بل مازالت تعبد في مقامات القرى آلهة وإلهات تعود في أصولها إلى العصر الحجري.
    كما أن الترتيبات الاجتماعية قبل عام 1000 ق.م بزمن طويل مازالت تنظم حياة الملايين من الهنود، من مسيحيين ومسلمين فضلاً عن الهندوس.

    إن الشعوب ذات البشرة الداكنة والتي تسمى شعوباً دراويدية وتجد أحفادها اليوم بشكل أساسي في جنوب الهند، كانت تعيش في الشمال أيضاً منذ حوالي خمسة آلاف سنة، وربما كان هؤلاء هم الهنود الأصليون، ولكن هذا الأمر غير مؤكد. لقد دخلت شعوب كثيرة إلى شبه القارة الهندية من خلال ممرات الجبال في الشمال الغربي، وربما جاء شعب آخر وأطلق شرارة الحضارة في وادي الهندوس، حيث بدأت الزراعة في الهند وحيث توجد الأدلة الأولى على صنع الفخار على عجلة، ولكن لا أحد يعلم الحقيقة بشكل أكيد.
    صحيح أن بعض العلماء قد اجتذبتهم فكرة أن تكون الهند أخذت حضارتها عن الشرق الأدنى، ولكن ربما توصل الهنود إلى الحضارة بأنفسهم، مثلهم مثل أهل بلاد الرافدين.

    لقد ظهرت الحضارة في الهند منذ عام 2500 ق.م تقريباً، وتشهد على ذلك أعمال علماء الآثار في أربعين أو خمسين موقعاً، من بينها بقايا مدينتين كاملتين في موهنجو دارو وهرابا، وكلتاهما قريبتان من نهر الهندوس، ولكن بينهما مسافة 400 ميل (650 كم تقريباً). كانت هاتان المدينتان كبيرتين ومدهشتين حقاً، وربما كان في كل منهما ثلاثين ألف نسمة عندما كانتا في ذروة امتدادهما، وكان محيطهما بين 2-205 ميل (3-4 كم ).
    من الواضح أن وادي نهر الهندوس لم يكن في ذلك الزمان جافاً بعد، لأن حضارة على هذا المستوى -وكانت حضارة هرابا هذه تشمل منطقة واسعة جداً- تحتاج إلى زراعة غنية جداً، ولابد من وجود طرق للتحكم بنهر الهندوس المعرض للفيضانات عن طريق نظم للتصريف والري من أجل أن تنشأ حياة المدن، ويشير هذا بدوره إلى مهارات عالية في التنظيم والإدارة والتقنية. وربما كان اختراع القرميد المشوي اختراعاً حاسماً، لأنه المادة التي بنيت بها مدن هرابا، وهو مناسب للتحكم بالفيضانات في هذا الوادي الخالي من الحجارة، إذ يمكن استخدامه لبناء السدود والمجارير والقنوات بينما لا يمكن ذلك باستخدام القرميد المجفف بأشعة الشمس الذي كان يصنع في بلاد الرافدين.

    كانت هنالك أرصفة للسفن أيضاً، منها رصيف في لوثال تصله بالبحر قناة طولها ميل كامل 1.5 كم ، ويدل على وجود تجارة مع العالم الخارجي، ربما كانت تجارة بالبضائع القطنية لأنك تجد في هذه الحضارة أبكر الأدلة على صنعها، ويعزز هذا الأمر الانطباع الذي تعطيه بقايا المدن بأنها كانت مدن غنية.
    فقد كان في كل مدينة قلعة ومناطق سكنية منازلها مرتبة بانتظام على مخطط متصالب، ولم تكن الشوارع مبلطة ولكن منازلها كانت متينة ومبنية من قطع قرميد ذات حجم واحد ومجهزة تجهيزاً حسناً، كما كانت هناك جوارير مبطنة بالقرميد تحمل الماء من أحواض الغسيل والمراحيض، ولها فوهات مغطاة تسمح بتنظيفها وفحصها، وكانت البيوت مزودة بأنابيب لرمي الأنواع الأخرى من الفضلات ثم جمعها.
    وقد اكتشفت أيضاً حمامات أو أحواض كبيرة في أماكن عامة مثل التي تراها اليوم في قرى الهند التي لا حصر لها ولعلها كانت تستخدم للعناية بنظافة الجسم لأن ثمة أدلة على ممارسة هذه العادة، أي أنه ربما كانت هناك أصول قديمة جداً لعادة الاغتسال التي طالما شددت عليها ديانة الهند، وطقوس الوضوء في الديانة الهندوسية اللاحقة.

    كانت حضارة هرابا تعرف الكتابة، وتجد كتاباتها على آلاف الأختام التي يبدو أنها كانت تستخدم لتعلمي بالات البضائع التي كانت تباع للخارج، كما تجدها على كسر قليلة باقية من الفخار.
    وكانت هذه الكتاب تصويرية، ولم تكشف الكثير لبحوث العلماء عدا عن احتمال أن تكون لغة هرابا قريبة من اللغة الدراويدية التي مازالت حية في جنوب الهند اليوم، ولكن من الواضح أن الكتابة كانت هامة جداً لعمل جهاز الإدارة الفعال والواسع.
    ويبدو أيضاً أن الأوزان والمقاييس كانت موحدة على امتداد منطقة واسعة؛ وأنه كانت هناك مخازن حبوب عامة كبيرة في المدن. كما تدل أحجار المراسي التي وجدت على رصيف لوثال على أن سفناً كبيرة كانت ترسو فيه، وقد وجدت بقايا من الأختام المستخدمة لتعليم بالات البضائع في الطرف العلوي من الخليج الفارسي، أي أن تجارة هرابا كانت تجارة واسعة المدى. ومن المعروف أيضاً أن أفكاراً وتقنيات من وادي الهندوس قد انتشرت عبر السند والبنجاب وعلى طول الساحل الغربي لغجرات، ولكن هذه العملية استغرقت قروناً طويلة، ومازالت الصورة التي تكشفها لنا الآثار مشوشة وغير واضحة.


    الهند الآرية
    بعد عام 2000 ق.م ببضعة قرون آلت حضارة وادي الهندوس إلى نهايتها، ولا نعلم السبب الذي أدى إلى ذلك.
    يقول البعض إنها ربما راحت ضحية كارثة بيئية من صنع البشر، فربما كان السبب هو المغالاة في قطع الأشجار من أجل تغذية أفران صنع القرميد، وبالتالي تخريب توازن الزراعة الدقيق القائم على ضفاف الهندوس، أو ربما سبّب اقتلاع الأشجار للزراعة أو الرعي، تعرية وجفافاً وانهياراً في الإنتاجية.
    وإذا كان أحد هذين الاحتمالين أو كلاهما صحيحاً فقد صار التحكم بفيضانات الهندوس المدمرة أمراً أصعب بكثير، وهي أخطار كانت ماثلة على الدوام، إلا أننا في الحقيقة لا نعلم السبب.

    هناك أيضاً احتمال وجود عامل آخر زاد الطين بلة في هذه البلد التي خربتها أصلاً المغالاة في استغلال بيئتها، وهو احتمال نال بعض التأييد لأنه قد يربط تاريخ الهند بالاضطرابات الكبرى التي كانت تجري في أماكن أخرى من العالم. يبدو أن حضارة هرابا قد انتهت في حوالي عام 1750 ق.م، ويتزامن هذا تزامناً لافتاً مع اندفاع مجموعة جديدة من الشعوب الغازية إلى شبه القارة، هي الشعوب التي تسمى آرية. لقد كان هؤلاء هنوداً أوربيين، وإن تسمية آري هي تسمية تدل على اللغة مثل تسمية هندي أوروبي، ولكنها تطلق عادة بشكل خاص، وهو استخدام ملائم على مجموعة واحدة من الشعوب الهندية الأوروبية التي بدأت تدخل الهند من جبال هندوكوش في حوالي عام 2000 ق.م، بينما كان غيرهم من الهنود الأوروبيين يتدفقون إلى إيران.
    وكانت هذه بداية قرون عديدة سوف يزداد فيها امتداد موجات هؤلاء المهاجرين عمقاً ضمن وادي الهندوس وإقليم البنجاب.

    وقد وصلوا في النهاية إلى أعلى نهر الغانج، ولا يميل العلماء إلى فكرة أن يكون الآريون وحدهم سبب خراب مدن هذا الوادي، كما أنهم لم يقضوا على الشعوب الأصلية، ولكن لا ريب أن قدومهم قد تميز بمقدار كبير من العنف، لأنهم محاربون وبدو ومسلحون بأسلحة برونزية، كما أنهم جلبوا معهم الخيل والعربات، وقد وجدت في مدن وادي الهندوس هياكل عظمية توحي بحدوث اقتتال. ولكن ثمة علامات كثيرة أيضاً تدل على أن السكان الأصليين في أماكن أخرى قد عاشوا إلى جانب الوافدين الجدد محتفظين بمعتقداتهم وعاداتهم، وقد امتزجت بعض تقاليد هرابا بالتقاليد اللاحقة.
    لم يكن لدى الآريين ثقافة متقدمة مثل التي وجدوها، وقد زالت الكتابة بقدومهم، ولم تظهر من جديد إلا في منتصف الألف الأولى ق.م. والمدن أيضاً زالت لتعود فتنشأ من جديد، ولكن كان ينقصها عندئذٍ الإحكام والنظام اللذين اتصفت بهما مدن وادي الهندوس من قبلها. ويبدو أن الآريين لم يتخلوا عن عاداتهم الرعوية ويستقروا للزراعة إلا ببطء، وقد انتشروا شرقاً وجنوباً من مناطق استقرارهم الأصلية في امتداد من القرى بغير انتظام. واستغرق هذا الانتشار قروناً عديدة، ولم يكتمل ولا استوطن وادي الغانج حتى قدوم الحديد، إلا أن الثقافة الآرية قد ساهمت مساهمات حاسمة في تاريخ الهند.


    مصور الهند مع نهر الغانج وإقليم البنجاب



    أولى تلك المساهمات هي وضع أسس الديانة الهندية، كان جوهر ديانة الآريين هو مفهوم الأضاحي، فمن خلال القرابين كانوا يعيدون بلا نهاية عملة الخلق التي أنجزتها الآلهة في بداية الزمان. وكان الإله آغني إله النار، وهو عظيم الأهمية لأنه من خلال لهب قرابينه يمكن للإنسان أن يبلغ الآلهة، كما منح البراهمة أهمية ومكانة كبيرتين، لأنهم الكهنة الذين يرأسون هذه الاحتفالات.
    ومن أهم الآلهة الأخرى اثنان هما فارونا إله السموات وضابط النظام الطبيعي وتجسيد العدالة، وإندرا الإله المحارب الذي يذبح التنين سنة بعد سنة، فيطلق من جديد مياه السموات التي تأتي مع اندفاع الرياح الموسمية. ويخبرنا عن هذين الإلهين وعن غيرهما الريغ فيدا وهي مجموعة تضم أكثر من ألف ترتيلة فيدية تؤدى أثناء تقديم القرابين، وقد تراكمت عبر القرون.

    يبدو أن الريغ فيدا تعكس الثقافة الآرية بعد أن غيرها الاستقرار في الهند، وليس كما كانت في أزمنة أبكر، وكانت في البداية كتقليد شفهي، وبسبب قدسيتها كان من الضروري استظهارها استظهاراً دقيقاً، وقد حماها هذا الأمر من التحريف عن شكلها الأصلي الذي جمع أولاً في حوالي عام 1000 ق.م، عندما سجلت للمرة الأولى بعد عام 1300 للميلاد. وهي تشكل مع التراتيل اللاحقة والأعمال النثرية أفضل مصادر معلوماتنا عن الهند الآرية، التي تبقى آثارها بكماء لزمن طويل، لأن الآريين كانوا يبنون بالخشب وليس بالقرميد كما في مدن وادي الهندوس.
    تمتد الهند الموصوفة في الريغ فيدا من ضفاف الهندوس الغربية إلى نهر الغانج، ضمنها كانت تعيش شعوب آرية وسكان أصليين قاتمي البشرة جنباً إلى جنب في مجتمعات وحداتها الأساسية هي العائلات والعشائر.
    وكانت فيها أنماط اجتماعية من أصل آري وسوف تبقى لها أهمية دائمة، وكان أساس حياتهم الاجتماعية هو ما نسميه اليوم نظام الطبقات المنغلقة
    Caste. إن نظام الطبقات المنغلقة هي الميراث الأساسي الذي تركه الآريون للهند، إلى جانب ديانتهم ولغتهم السنسكريتية، وهي أساس لغات الهند التي مازالت محكية اليوم، ثم تطورت تلك الطبقات، فصارت عبارة عن مجموعات من الناس يتبعون نفس المهنة وتحق لهم وحدهم. وعضوية الطبقة وراثية، ولا يتزوج أفرادها في الحالة المثالية إلا من طبقتهم، ويشتركون بطقوس خاصة وأعمال إجبارية، وإذا كانوا متزمتين فإنهم لا يأكلون إلا طعاماً حضره أفراد من الطبقة نفسها. وقد صارت في النهاية مئات من الطبقات وفروع الطبقات، ومع تزايد تعقيد المجتمع وضعت محرمات جديدة في الزواج والطعام، وأصبحت متطلبات هذا الترتيب في النهاية ناظماً أساسياً لمجتمع الهند، بل الناظم الأهم في حياة الكثيرين من الهنود.
    وفي الأزمنة الحديثة أضحت هناك آلاف من الطبقات المحلية والمهنية، وقد شكلت هذه مع روابط العشيرة والعائلة والانتماء المحلي بنية من السلطة في مجتمع الهند يعادل نفوذها نفوذ المؤسسات السياسية الرسمية والسلطة المركزية.

    كان هذا النظام قد بدأ بتقسيم بسيط للمجتمع الآري إلى ثلاث طبقات: البراهمة، المحاربون، المزارعون.
    لم تكن هذه الطبقات في البدء محددة بدقة ولا حصرية كما صارت لاحقاً، بل يبدو أن الانتقال من إحداها إلى الأخرى قد ظل ممكناً طوال قرون عديدة، ويبدو أن الحاجز الاجتماعي الوحيد الذي كان يستحيل عبوره في الأزمنة القديمة هو الحاجز بين الآريين وغير الآريين. إذ يبدو أن هناك طبقة اجتماعية رابعة قد ميزت وحددت تحديداً شديداً وقاسياً، وهي تضم السكان الأصليين ذوي البشرة الأقتم من الغزاة، لأن الغزاة أرادوا البقاء منفصلين عنهم فاعتبروهم بالتالي خارج نظام الطبقات الثلاث أصلاً. وصار غير الآريين، أي أفراد الطبقة الرابعة الجديدة يسمون ”النجسين” ولما كانوا غير آريين فلم يكن يحق لهم الاشتراك في القرابين الدينية أو الدراسة أو سماع تراتيل الفيدية. وفي النهاية أمسى هؤلاء النجسون الذين ميزوا أصلاً لرغبة في الحفاظ على نقاوة العرق، هم طبقة ”المنبوذين”
    the untouchables في الهند الحديثة، وهي طبقة تترك لها الأعمال القذرة من تنظيف وكنس، وينظر إليها باحتقار شديد، إلى حد أن بعض البراهمة مازالوا يشعرون أن ظل الكناس يلوث الطعام إذا وقع عليه.

    كان هناك ملوك منذ المجتمع القبلي الآري الباكر، وفي نحو عام 600 ق.م كان هناك ما يقرب من ستة عشر مملكة موزعة في وادي الغانج وراسخة فيه. وكانت هذه نتيجة قرون من الضغط الدائم نحو الشرق والجنوب الشرقي، ويبدو أن الاستقرار السلمي والتزاوج قد لعبا دوراً لا يقل عن دور الغزو في هذا التطور، ولكننا لا نستطيع من خلال الميثولوجيا أن نرى بوضوح كيف حدث ذلك. لقد انتقل مركز الثقل في الهند الآرية أثناء هذه الحقبة رويداً رويداً من البنجاب إلى وادي الغانج مع تبني الشعوب التي كانت هناك للثقافة الآرية. وكان وادي الغانج منذ القرن السابع ق.م المركز الرئيسي لسكان الهند، وربما صار هذا ممكناً بفضل زراعة الأرز.
    فبدأ عندئذٍ عصر ثان من المدن الهندية، كانت أبكرها أسواقاً ومراكز تصنيع تجمع الحرفيين المختصين، وبفضل وجود السهول الكبيرة ونشوء جيوش أكبر وأفضل تجهيزاً، بلغنا خبر استخدام الفيلة، سهل الاندماج في وحدات سياسية أوسع كما أن ظهور النقد واكتشاف الكتابة من جديد قد ساعدا في زيادة تماسك الحكومات وانتظامها، وتجد في وثائق لاحقة معلومات عن تلك الحكومات وعن الأسماء الكبيرة المرتبطة بها، خصوصاً في ملحمتين هنديتين كبيرتين، هما الرامايانا والمهابهاراتا اللتان دونت نصوصهما كما نعرفها للمرة الأولى في نحو عام 400 ق.م.

    ومهما كانت السمات المحلية للثقافات الهندية، فقد استمرت الحضارة الآرية بالانتشار، فتقدمت نحو البنغال على طول وادي الغانج، كما امتدت جنوباً على طول السواحل الغربية نحو غجرات، ثم المرتفعات الوسطى لشبه القارة الهندية ويبدو أن استيطان الآريين قد توقف هناك.
    لقد كانت منطقة الدكن في الجنوب معزولة دوماٌ عن الشمال بواسطة هضاب مغطاة بالأدغال، هي هضاب فنديا، كما أن جنوب الهند نفسه مقسم بالهضاب، وقد أعاق هذا الأمر بناء دول كبيرة فيه، لذلك بقي مفككاً وبقيت بعض شعوبه تعيش في ثقافات الصيد وجمع الطعام القبلية بسبب صعوبة الوصول إليها. إلا أن هذا الوصف لا يجوز أن يجعلنا ننسى وجود النصف غير الآري في شبه القارة، ولو أن الكتابات والنصوص الكلاسيكية مقتصرة على الشمال الآري.
    والحقيقة أن الأدلة القليلة الموجودة من آثار الجنوب تشير إلى تأخره الثقافي الواضح والمستمر عن منطقة نهر الهندوس وبقية شبه القارة منذ المرحلة الباكرة، وإن اسم الهند إنما أتى من اسم نهرها الشمالي هذا. أما في الجنوب فلا يبدأ البرونز والنحاس بالظهور إلا بعد وصول الآريين إلى الشمال بزمن طويل، ومتى خرجت من وادي نهر الهندوس لا تعود تجد تماثيل معدنية ولا أختاماً، كما تندر التماثيل الفخارية العائدة للأزمنة ما قبل الآرية، وإن استمرار اللغات الدراويدية في الجنوب لدليل على انعزال هذه المنطقة الدائم.

    إن تقديرات أعداد السكان في الأزمنة القديمة تخمينية لا يعول عليها كثيراً، وقد قدر عدد سكان الهند بحوالي 25 مليوناًً في عام 500 ق.م ، وربما كان هذا تقريباً ربع سكان العالم كله في ذلك الحين.
    إلا أن أهمية تاريخ الهند الباكر تكمن في تأثيره المستمر في صياغة حياة مئات الملايين من الناس اليوم، وليس في عدد سكانها الكبير في العصور القديمة. ويصح هذا الأمر بالأخص على موضوع الدين، فقد تبلورت الديانة الهندوسية الكلاسيكية في الألف الأولى ق.م، كما كانت البوذية أيضاً قد ظهرت كديانة عالمية كبرى في طور النشوء؛ ولما كانت أفعال الناس محكومة بما يؤمنون أنهم قادرون على فعله، فإن هاتين الديانتين هما مفتاحان لتاريخ الهند، أي أن جوهر تاريخ هذا البلد هو صياغته لثقافة معينة وليس صياغة أمة أو اقتصاد ولقد كانت الديانة في قلب تلك الثقافة.


    لِنسعَ إخوتي إلى العلا هيا
    نتجاوز الضياء مداه ونعدو الثريا

  8. #38

    • عبير العبير غير متواجد حالياً
    • مساعد الادارة

    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    5,146

    افتراضي رد: تاريخ العالم

    ديانة الهند الباكرة

    إن جذورها لسحيقة القدم، ثمة ختم من موهنجو دارو صورة شخص كأنه شكل باكر للإله شيفا، وهو أحد شخصيات العبادة الشعبية الكبرى في الهندوسية، كما وجدت في مدينة هرابا أحجار بشكل قضيب الرجل lingam الذي يمثل شعاره في المعابد الحالية، وربما كانت عبادة شيفا أقدم عبادة باقية في العالم، ولو أن لها ملامح آرية هامة. كما أن ثمة أختاماً أخرى من هرابا توحي بعالم ديني يتمحور حول إلهة أم وثور.
    ومازال الثور مستمراً حتى اليوم بشكل الإله ناندي الذي تراه في مقامات القرى التي لا حصر لها في كافة أنحاء الهند الهندوسية، وقد اكتسب قوة جديدة في تجسده الأخير كشعار انتخابي لحزب الكونغرس.

    أما الإله فشنو فهو آري بصورة أوضح؛ وهو أيضاً يشكل عبادة هامة في الهندوسية الشعبية الحديثة، وقد انضم إلى مئات الآلهة والإلهات المحلية التي مازالت تعبد اليوم لتشكل معاً مجمع الآلهة الهندوسية. ومهما كانت آثار عصر هرابا أو حتى ما قبل هرابا في الديانة الهندوسية، فإن تقاليدها الفلسفية والتأملية الكبرى قد انبثقت من الديانة الفيدية ومن التراث الآري.
    إن السنسكريتية هي لغة التعليم الديني التي ما زالت تستخدم اليوم في الجنوب المتحدث باللغات الدراويدية مثلما هي مستخدمة في الشمال، وقد كانت السنسكريتية رباطاً ثقافياً عظيماً، وكذلك الديانة التي حملتها.
    وكانت التراتيل الفيدية نواة نظام من الفكر الديني أكثر تجريداً وفلسفة من الروحانيات البدائية[1]، وقد تطورت المفاهيم الآرية حول الجحيم والجنة، أي ما كان يسمى بيت الطين وعالم الآباء، رويداً رويداً نحو الإيمان بأن أعمال الإنسان في الحياة هي التي تحدد مصيره.

    وبزغت من هذه العناصر بالتدريج بنية هائلة وشاملة من الفكر، ونظرة للعالم ترتبط فيها الأشياء كلها ضمن شبكة عظيمة من الوجود. فقد تمر الأرواح بأشكال مختلفة من حياة إلى حياة ضمن هذا الكل الشاسع، وقد تصعد سلم الوجود أو تهبطه، كأن تنتقل بين الطبقات مثلاً أو حتى بين عالمي الإنسان والحيوان.
    ويتحدد شكل التقمص من حياة إلى حياة أخرى بالسلوك السليم، كما أن هذا التقمص مرتبط بفكرة التطهر والتجدد، والثقة بالتحرر مما هو عابر وعارض وظاهر، والإيمان بالتطابق الجوهري بين الروح والوجود المطلق في البراهما، أي المبدأ الخالق. وكان واجب المؤمن هو التقيد ”بالدارما” وهي مفهوم لا يمكن ترجمته، ولكنه يجسد شيئاً من الأفكار الغربية عن قانون عدالة طبيعي، وشيئاً من فكرة أن على الإنسان احترام الواجبات التي تفرضها عليه مرتبته في الحياة وطاعتها.

    لقد استغرقت هذه التطورات زمناً طويلاً، ومرت التقاليد الفيدية بخطوات معقدة وغامضة حتى تحولت إلى الهندوسية الكلاسيكية، وكان البراهمة في قلب المراحل الباكرة من هذا التطور، وكان لهم دور أساسي في طقوس تقديم القرابين في الديانة الفيدية، ويبدو أنهم سرعان ما تعايشوا مع آلهة عالم أقدم.
    ولم تظهر علامات مقاربة أكثر فلسفية إلا عام 700ق.م تقريباً، وذلك في نصوص مقدسة تسمى الأبانيشد، وهي مزيج من التلاوات والتراتيل والحكم والتأملات وضعها رجال قديسون، ترشد إلى المعاني العميقة للحقائق الدينية التقليدية. إن التركيز على الآلهة والإلهات الشخصية فيها أقل بكثير من النصوص الأبكر، كما أنها تضم بعض أبكر التعاليم الزاهدة التي سوف تصبح ملمحاً بارزاً ولافتاً من ملامح الديانة في الهند، مع أن الذين مارسوها كانوا قلة قليلة.
    لقد لبت الأبانشيد الحاجة التي شعر بها البعض للبحث عن الرضا الديني خارج إطار التقاليد، ويبدو أن بعضهم كانت تساورهم الشكوك حول مبدأ القرابين.
    كانت أنماط جديدة من التفكير قد بدأت بالظهور عند بداية الحقبة التاريخية، وتجد التعبير عن الشك بالمعتقدات القديمة، منذ التراتيل المتأخرة في الريغ فيدا، وسوف تجسد الديانة الهندوسية الكلاسيكية تأليفاً بين أفكار مثل أفكار الأبانشيد التي تشير إلى مفهوم توحيدي للكون وبين التقاليد الأقرب إلى تعدد الآلهة والأكثر شعبية التي كان ينادي بها البراهمة.


    [1] الأرواحية animism هي الاعتقاد بأن لكل ما في الكون وحتى للكون نفسه روحاً أو نفساً

    لِنسعَ إخوتي إلى العلا هيا
    نتجاوز الضياء مداه ونعدو الثريا

  9. #39

    • عبير العبير غير متواجد حالياً
    • مساعد الادارة

    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    5,146

    افتراضي رد: تاريخ العالم

    الصين القديمة

    منذ نحو ألفين وخمسمائة عام تعيش على الأرض أمة صينية تستخدم لغة صينية، وإن هذا لدليل على حضارة طويلة ومستمرة ومنيعة على التأثير الخارجي، لا يجاريها في ذلك إلا حضارة مصر القديمة.
    ولقد بقيت حكومة الصين لزمن طويل وحدة واحدة بالرغم من فترات الانقسام والاضطراب، وصاغت لها هذه الخبرة هوية تاريخية ثقافية بقدر ما هي سياسية، لأن ثقافة الصين هي التي سهلت توحيد الحكم. ومنذ تاريخ باكر جداً تبلورت فيها مؤسسات ومواقف تناسب ظروفها الخاصة، وسوف تستمر لزمن طويل.

    تظهر الأدلة على الزراعة في شمال الصين، في أرض أعلى بقليل من مستوى فيضان النهر الأصفر؛ كانت تلك زراعة من النوع الذي يستنفذ التربة بشكل كامل أو جزئي، وتعود الأدلة عليها لحوالي 5000 ق.م.
    من هذه المنطقة الهامة انتشرت الزراعة شمالاً إلى منشوريا وجنوباً أيضاً. وسرعان ما ظهرت فيها ثقافات معقدة تستخدم حجر اليشب والخشب للحفر، وتدجن دودة القز، وتصنع الأواني المعدة للاحتفالات بأشكال سوف تصبح تقليدية بل ربما كان الصينيون يستخدمون العيدان في تناول الطعام منذ ما قبل التاريخ. ويقصد من هذا كله أن الصين كانت منذ الأزمنة النيوليتية تبدي ملامح كثيرة سوف تميزها في المستقبل.
    ومن هذه العلامات الاستخدام الواسع للدخن، وهو نوع من الحبوب ملائم للزراعة الجافة
    * التي كانت تمارس أحياناً في الشمال، كما أنه قد ظل المادة الأساسية في طعام الصينيين حتى ألف سنة خلت تقريباً.
    تتحدث كتب الصين القديمة وأساطيرها عن شخصية اخترعت الزراعة، ويدل ذلك على أهمية هذا الاختراع. إن الأشياء التي يمكنك استنتاجها بشكل أكيد وواضح عن التنظيم الاجتماعي الباكر هي أشياء قليلة جداً، ولكنهم كانوا يعتبرون أن كل بقعة تحت السماء هي أرض الحاكم، وربما كان هذا انعكاساً لأفكار قديمة تقول إن الأرض برمتها ملك للجماعة ككل. ويمكنك أيضاً أن تنسب إلى الأزمنة الباكرة ظهور بنية العشيرة والطواطم، إذ تكاد القرابة أن تكون أول مؤسسة يمكن تمييزها، وسوف تستمر لتصبح هامة في الأزمنة التاريخية.
    وتوحي الأدلة التي يقدمها الخزف ببعض التعقيد في الأدوار الاجتماعية، لأن هناك قطعاً رقيقة منه تعود إلى الأزمنة النيوليتية لا يمكن أن تكون قد صنعت لأغراض الاستعمال اليومي، فيبدو إذن أن مجتمعاً متعدد الطبقات كان قد بدأ يبزغ قبل أن نصل إلى الحقبة التاريخية.

    لقد بقيت تلك الزراعة التي قامت عليها ثقافة الصين المتقدمة محصورة بشمال البلاد، وإن هناك مناطق كثيرة في هذا البلد الشاسع لم تبدأ بالزراعة إلا بعد زمن طويل، وفي مرحلة متقدمة من الحقبة التاريخية. ولكن العلماء متفقون مع التقاليد التي تقول إن قصة الحضارة تبدأ في هذه المنطقة الشمالية الهامة على عهد حكام ينتمون لشعب يدعى الشانغ وهو أو اسم في اللائحة التقليدية للسلالات له أدلة مستقلة تؤيد وجوده.
    وقد بقيت هذه اللائحة أساس تقسيم تاريخ الصين لزمن طويل، وسوف تصبح التواريخ أكثر دقة منذ أواخر القرن الثامن ق.م، ولكن ليس ثمة تقسيم جيد لتاريخ الصين الباكر مثل الذي نعرفه عن مصر.
    وفي حوالي عام 1700 ق.م مع هامش قرن واحد زيادة أو نقصاناً تمكنت قبيلة اسمها الشانغ، كانت تتميز باستخدام العربة في المعارك الحربية، من فرض نفسها على جيرانها على امتداد رقعة واسعة من النهر الأصفر، وعلى حوالي 40.000 ميل مربع (100.000 كم2) من شمال هونان.



    صين الشانغ

    كان ملوك الشانغ شخصيات عظيمة عاشوا وماتوا في أبهة، وكان العبيد والضحايا يقدمون قرابين ويدفنون معهم في مدافن عميقة وفخمة.
    ويبد أن حكومة الشانغ كانت عبارة عن ملاك أراضي محاربين يرأسون سلالات أرستقراطية لها أصول شبه أسطورية ولكنها تمكنت من توحيد العملة وتشييد تحصينات ومدن على مستوى يحتاج إلى مجهود جماعي واسع.
    وكان في بلاط الشانغ كتبة وأمناء أرشيف، فقد كانت تلك مملكة تعرف الكتابة، ويبدو أنها كانت تحكم أول ثقافة عرفت الكتابة بحق إلى الشرق من بلاد الرافدين إلا إذا تبين أن الكتابة في وادي الهندوس كان أكثر تطوراً مما يبدو الآن، وكان لحضارة الشانغ أيضاً تأثير يمتد وراء المنطقة التي سيطرت عليها هذه السلالة سياسياً.



    صين التشانغ والصين الحالية

    في الأزمنة الباكرة كانت القرارات الكبرى والأقل منها أيضاً تتخذ عن طريق قراءة الوحي، فكانوا يحفرون رموزاً على تروس السلاحف أو عظام ترقوة الكتف المأخوذة من حيوانات معينة، ثم يوضع عليها دبوس برونزي محمى بحيث يصنع شقوقاً على الطرف المقابل، وينظر في اتجاه هذه الشقوق وطولها بالنسبة إلى الرموز ويقرأ الوحي بناء على ذلك.
    ويقدم هذا الأمر دليلاً على فترة تأسيس اللغة الصينية، لأن الرموز المنقوشة على هذه العظام والتي كانت تحفظ كسجلات هي الأشكال الأساسية للغة الصينية الكلاسيكية.
    كان لدى شانغ نحو 5000 رمز من هذه الرموز، ولكن لا يمكن قراءتها كلها، إلا أننا نعلم أن بنية اللغة منذ ذلك الحين كان مثل بنية اللغة الصينية الحديثة، أي أنها مكونة من صور يمثل كل منها مقطعاً صوتياً واحداً، وهي تعتمد على ترتيب الكلمات وليس على تصريفها من أجل إضفاء المعنى، فقد كان الشانغ إذن يستخدمون شكلاً من أشكال اللغة الصينية.
    وسوف يتحول قراء الوحي في المستقبل إلى طبقة العلماء النبلاء، وهم خبراء لا غنى عنهم لأنهم يملكون مهارات مقدسة وسرية. وهكذا بقيت اللغة حكراً على نخبة صغيرة نسبياً وجدت أن امتيازاتها متأصلة فيها، وأن من مصلحتها أن تحميها من الفساد والتحريف.
    وكانت اللغة قوة عظيمة في تأمين الوحدة والثبات، كما صارت الصينية المكتوبة لغة للحكم والثقافة تسمو على تقسيمات اللهجات المحلية والأديان والمناطق، وسوف يبقى فن التخطيط ذا مرتبة عالية بين فنون الصين، وبهذه الوسيلة تمكنت النخبة من ضمن هذا البلد الواسع والمتنوع برباط واحد.


    لِنسعَ إخوتي إلى العلا هيا
    نتجاوز الضياء مداه ونعدو الثريا

  10. #40

    • عبير العبير غير متواجد حالياً
    • مساعد الادارة

    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    5,146

    افتراضي رد: تاريخ العالم


    حقبة التشو

    انهار الشانغ في النهاية أمام قبيلة أخرى من غرب الوادي، هي قبيلة التشو، وقد حدث هذا على الأرجح في عام 1027 ق.م.
    لقد تم على عهد التشو الحفاظ على الكثير من بني الشانغ الحكومية والاجتماعية المتقدمة وازدادت تطوراً أيضاً، كما استمرت طقوس الدفن وتقنيات شغل البرونز والفنون التزيينية بأشكال لم تتغير تقريباً.
    وقد شهدت مرحلة التشو تمتين هذا الميراث وزيادة انتشاره، وتبلور مؤسسات إمبراطورية الصين القادمة، واللافت أن التشو كانوا يعتبرون أنفسهم محاطين بشعوب بربرية تتمنى أن تحقق لها سلالتهم السلام كي تنعم بخيراته، والحقيقة أن سيادتهم كانت ترتكز على الحروب.
    كانت الحكومة في العادة عبارة عن مجموعة من الوجهاء والأتباع، بعضهم أكثر اعتماداً على السلالة من بعضهم الآخر ويؤدون لها في أيام الرخاء على الأقل اعترافاً شكلياً بسلطتها، كما يزداد اشتراكهم بثقافة واحدة. كانت الصين ككيان سياسي من المنطقي استخدام هذا التعبير ترتكز على أملاك بيرة على درجة من التماسك تسمح لها بالبقاء طويلاً، وأحياناً كان سادتها الأصليون يتحولون إلى حكام يمكن أن نسميهم ملوكاً، تخدمهم بيروقراطيات بسيطة خاصة بهم.


    مملكة التشو



    في نحو 700 ق.م طرد البرابرة التشو من مركز أجدادهم إلى وطن جديد إلى الشرق في هونان، ولكن سلالتهم بقيت حتى عام 256 ق.م. وتمتد المرحلة التالية التي يمكن تمييزها منذ عام 403 وحتى 221 ق.م، وتعرف باسم ذي دلالة هو مرحلة الدول المتحاربة.
    لقد بات الاصطفاء التاريخي عن طريق الصراع الآن ضارياً، وراحت الأسماك الكبيرة تلتهم الصغيرة حتى لم يبق في النهاية إلا حوت واحد كبير، فصارت جميع أراضي الصينيين للمرة الأولى إمبراطورية واحدة كبيرة تحكمها سلالة التسين، التي أتى منها اسم الصين.
    ومن المناسب أن نتوقف عند هذه النقطة، فقد دلتنا سجلات الصين التاريخية التقليدية حتى الآن، على نحو خمسة عشر قرناً من الصراعات الغامضة بين الملوك والرعايا الأقوياء من دون أن تعطينا خطاً للقصة، إلا أننا نستطيع تمييز عمليات أساسية كانت تجري خلالها سوف تكون لها أهمية عظيمة في المستقبل.

    من تلك العمليات الانتشار المستمر للثقافة من حوض النهر الأصفر نحو الخارج، لقد بدأت الحضارة الصينية بشكل جزر صغيرة جداً في بحر من البربرية ولكنها صارت في عام 500 ق.م ملكاً مشتركاً لعشرات بل ربما مئات الدويلات والإقطاعيات الموزعة عبر الشمال، كما انتقلت إلى وادي اليانغ تسي كيانغ.
    وكانت هذه منذ زمن بعيد أرض مستنقعات وغابات كثيفة ومختلفة جداً عن الشمال، وكانت تسكنها شعوب أكثر بدائية. وعند نهاية مرحلة الدول المتحاربة كان مسرح تاريخ الصين على وشك الاتساع بشكل كبير، فقد تغلغل نفوذ التشو في هذه المنطقة، ولعب التوسع العسكري دوراً في ذلك وساهم في هذا التغلغل في صنع أول ثقافة ودولة كبريين في وادي اليانغ تسي كيانغ.


    مجتمع الصين الباكر

    منذ عهدي الشانغ والتشو كان قد وضع نمط مجتمع المستقبل بشكل انقسام جوهري إلى طبقتين، هما طبقة النبلاء أصحاب الأرض، وطبقة العامة وسوادها من الفلاحين.
    لقد دفعت الطبقة العامة وأحفادهم، وهم الأكثرية العظمى من الشعب، ثمن كل ما أنتجته الصين من حضارة وسلطة ولكننا لا نعلم إلا القليل من أعدادهم التي لا تحصى، لأن الفلاح الصيني كان ينتقل بين كوخه الطيني في الشتاء ومخيم يعيش فيه خلال أشهر الصيف لكي يحرس المحاصيل ويرعاها، لم يترك أي من هذين المسكنين أثراً يذكر.
    عدا عن هذا يبدو الفلاح مغموراً في جماعة لا اسم لها، فهو لا ينتمي إلى عشيرة ومرتبطاً بالأرض التي يؤخذ منها في بعض الأحيان لكي يؤدي واجبات أخرى ويخدم سيده في الحرب أو في الصيد.

    وقد استمر التمييز بين عامة الشعب والنبلاء زمناً طويلاً جداً، وفي أزمنة لاحقة كان النبلاء معفيين من عقوبة الجلد التي قد تطبق على العامة، ولو أنهم كانوا بالطبع معرضين لعقوبات مناسبة بل رهيبة في حال ارتكابهم جرائم أخطر، كما كانوا يتمتعون باحتكار فعلي للثروة استمر بعد احتكارهم الأبكر للأسلحة المعدنية.
    إلا أن الفرق الحاسم في المنزلة إنما هو في مكانة النبيل الدينية الخاصة والناشئة من احتكاره طقوساً دينية معينة. والنبيل وحده ينتمي إلى عائلة أي أن له أجداداً وإن تقاليد توقير الأجداد واسترضاء أرواحهم تعود إلى ما قبل أزمنة الشانغ.

    إن العائلة هي تطوراً قانونياً للعشيرة وفرعاً منها، وكان هناك نحو مائة عشيرة لا يحق لأفرادها الزواج من شخص من العشيرة نفسها، وكانوا يعتقدون أن كلاً منها قد أسسها بطل أو إله.
    كان آباء عائلات العشائر وبيوتها يمارسون سلطة خاصة على أفرادها، وكان جميعاً مؤهلين لأداء طقوسها المضنية والطويلة، التي يطلبون فيها من الأرواح أن تتوسط لصالح العشيرة لدى القوى المسيطرة على الكون. ثم صارت هذه الطقوس تميز الأشخاص المؤهلين لامتلاك الأراضي وشغل المناصب. وكان هناك نوع من تساوي الفرص على مستوى العشيرة، لأن أياً من أفرادها يمكنه أن يعين في أعلى مناصبها، فكلهم مؤهلون لذلك بفضل تحدرهم جوهرياً من أصول شبه إلهية؛ وبهذا المعنى لم يكن الملك إلا رجلاً أول بين رجال متساوين، ونبيلاً بارزاً بين جميع النبلاء.

    أما عامة الشعب فكانت تجد متنفسها الديني في آلهة الطبيعة، وكان استرضاء أرواح الجبال والأنهار وعبادتها واجباً ملكياً هاماً منذ الأزمنة الباكرة، ولو أن سلطة عبادات الطبيعة في الصين كانت أضعف منها في أنظمة دينية أخرى.
    كان جوهر ادعاء الأسرة الحاكمة بحق الطاعة هو صدارتها الدينية، لأنها تستطيع عن طريق ممارسة الطقوس بلوغ رضا قوى غير منظورة، يمكن معرفة نياتها من خلال قراءة الوحي.
    وعندما يفسر الوحي يمكن تنظيم الحياة الزراعية للجماعة، لأنه هو الذي يحدد البذار والحصاد وغيرها. لذلك كانت أشياء كثيرة تعتمد على المكانة الدينية للملك، وكانت لها الأهمية الكبرى في الدولة.
    في عهد تشو ظهرت فكرة وجود إله أعلى من الآلهة المؤسسة للسلالات، وأنه قد منح انتداباً من السماء بالحكم، فكانت هذه بداية فكرة أخرى أساسية في المفهوم الصيني للحكم، وسوف ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم التاريخ الدوري، الذي يرسمه صعود السلالات وهبوطها.
    وقد أدى هذا الأمر بالطبع إلى محاولات تخمين من أجل معرفة العلامات التي تسمح بالتعرف على صاحب الانتداب الجديد.

    لا تعطي السجلات الباكرة لحكومة الصين الانطباع بأن الملكية كانت لديها أشغال كثيرة، فعدا عن اتخاذ قرارات السلم أو الحرب في الحالات غير العادية، يبدو أن الملك لم تكن لديه أشياء كثيرة يفعلها سوى أداء واجباته الدينية والصيد واستهلال مشاريع البناء أو تأسيس المستوطنات الزراعية، كما كان يفعل بعض ملوك التشو، وقد بزغ رويداً رويداً وزراء كانوا ينظمون حياة البلاط، بينما كان الملك عبارة عن صاحب أراضٍ لا يحتاج في الغالب إلا وكلاء ومشرفين وبعض الكتبة، ولا ريب أنه كان يقضي جزءاً كبيراً من حياته متنقلاً بين أراضيه.
    أما النشاط الأخير الوحيد الذي يحتاج فيه إلى مساعدة الخبراء هو النشاط المتعلق بأمور ما فوق الطبيعة، ومن هنا سوف تنمو رابطة وطيدة بين الحكم وتحديد الوقت والتقويم، وكلاهما على أهمية كبرى في المجتمعات الزراعية.
    كانت التقنيات اللازمة مبينة على علم الفلك، ورغم أنها اكتسبت أساساً هاماً من الملاحظة والحساب فقد كانت أصولها سحرية ودينية.


    لِنسعَ إخوتي إلى العلا هيا
    نتجاوز الضياء مداه ونعدو الثريا

+ الرد على الموضوع
صفحة 4 من 5 الأولىالأولى ... 2 3 4 5 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

المواضيع المتشابهه

  1. تاريخ ونشأة الزّراعة في العالم
    بواسطة عبير العبير في المنتدى الزراعي العام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 06-12-2012, 11:40 PM
  2. تاريخ صناعة السكر في العالم
    بواسطة محمد كامل في المنتدى المنتدي العام
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 28-04-2011, 11:54 PM
  3. تاريخ مصر القديم
    بواسطة الصباح النجار في المنتدى أخبار الدنيا
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 01-10-2009, 06:34 PM
  4. تاريخ مصر القديمة
    بواسطة الصباح النجار في المنتدى أخبار الدنيا
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-09-2009, 07:04 PM
  5. تاريخ الأسكندرية
    بواسطة خالد محمد كمون في المنتدى أخبار الدنيا
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 13-05-2009, 09:25 PM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك