تفاعل وتبادل

في عام 1000 ق.م كانت قد ظهرت أنماط عديدة من الحضارة في الشرق الأدنى وشرق المتوسط، وكانت أنماط أخرى قد زالت. وكانت القوى العظمى قد ألفت التعامل إحداها مع الأخرى عبر هذه المنطقة من خلال الدبلوماسية الرسمية، بينما كان الحرفيون والتجار والمرتزقة يتحولون فيها بحثاً عن معيشتهم، والناس يتبادلون الأفكار وأساليب الفن والمهارات التقنية في كافة أنحائها. وكانت تلك بحق أول مجموعة عالمية من المجتمعات. ولقد بقيت هذه المنطقة لزمن طويل المكان الوحيد في العالم الذي يبدي هذه الحيوية والتبادل الخلاق، وفيها يمكنك أن تميز بدايات تيارات سوف تسيطر على تاريخ العالم في قرننا هذا.
وإن أفضل نقطة للبدء بفهم الأمور هي مرة ثانية تحركات الشعوب وترحالها. تفسر تلك الهجرات جزءاً كبيراً من التبدّلات الدينامية الجارية، فطوال الألف الثاني ق.م يظهر في كل من الهند وإيران وبلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر وبحر إيجة تأثير الشعوب التي نسمي لغاتها هندية أوروبية.
تقول إحدى الفرضيات إن الهنود الأوروبيين قد أتوا من جنوب روسيا، وكان ذلك على الأرجح قبل عام 2000 ق.م بزمن طويل، وربما كان السبب أن التغيرات المناخية في آسيا الوسطى قد دفعت شعوباً أخرى في الشرق إلى الهجرة غرباً فشكلت بذلك ضغطاً على "الهنود الأوروبيين" ودفعتهم بدورهم.
ومن الطرق التي سلكوها طريق تمتد في شبه جزيرة البلقان نزولاً إلى اليونان وتراقيا، ومن هناك عبر الأناضول.
وفي هذه الأثناء كان هنود أوربيون آخرون قد نزلوا عبر القوقاز، ومن تركستان إلى بلخ وإيران والهند، وإن اسم إيران مرادف لصفة ”آري
Aryan وعدا عن الهنود الأوروبيين الذين كانوا في منطقة الدانوب بجنوب شرق أوروبا، كان آخرون قد تحركوا غرباً إلى ألمانيا وشمال فرنسا بل وحتى الجزر البريطانية، ولكن لنترك قصتهم لمرحلة لاحقة.

في الهلال الخصيب دخلت هذه الشعوب صراعاً مع الإمبراطوريات القديمة التي كان تسيطر عليه منذ الإطاحة بسومر وكانت الشعوب السامية تنتقل فيه أيضاً.
ويخبرنا العهد القديم من الكتاب المقدس المسيحي أن إبراهيم، الذي يعتبره اليهود الآن في بداية تاريخهم التقليدي، قد انطلق من أور عبر بلاد الرافدين والشام سعياً إلى المرعى، وهي على الأرجح قصة حفظتها ذاكرة الشعوب. وكانت هناك قبائل كثيرة تنتقل في ذلك الحين، كما أن الهنود الأوروبيين كانوا أيضاً رعاة رحل، وتتنازع فيما بينها على الكلأ والماء في الهلال الخصيب، وقد انجذبت تلك الشعوب إلى الثقافات المتطورة التي كانت في هذه البلاد، وراحت تستعير منها وتقلدها.

ولابد أن تكون الهجرة قد سرعت في انتشار الحضارة بصورة كبيرة، والدليل على هذا هو انتشار الكتابة. في عام 2000 ق.م كانت الكتابة محصورة إلى حد كبير بحضارات وديان الأنهار، ولو أن المسمارية كانت منتشرة في كافة أنحاء بلاد الرافدين وكانت تكتب بها لغتان أو ثلاث؛ ففي مصر مثلاً كان يحفر على الصروح بالكتابة الهيروغليفية، وكانت الكتابة اليومية تتم بشكل مبسط منها يدعى الهيراطية، أما المسمارية فكانت مستخدمة في الدبلوماسية.
ولكنك بعد حوالي ألف سنة صرت تجد شعوباً تعرف الكتابة في كافة أنحاء الشرق الأدنى، وفي كريت واليونان أيضاً، ويمكن تمييز هذه الشعوب من خلال لغاتها المختلفة.
كما أنها كانت تخترع كتابات جديدة، ففي كريت مثلاً تجد في حوالي عام 1500 ق.م كتابة كانت مستخدمة لتدوين شكل من اللغة اليونانية، أي أنها تصل بك إلى مشارف عالم جديد. وإن أول كتابة دوّن بها أدب غربي كانت مستخدمة في عام 800 ق.م، وهي مشتقة من أبجدية اخترعت لكتابة لغة سامية ومأخوذة من الفينيقيين.

يتبع