البشريات

كتاب تاريخ العالم - الفصل الأول - قبل التاريخ

ظهرت أولى القردة منذ حوالي 25 مليون سنة، وكانت أرقى الرئيسات تطوراً في زمانها، فقد كانت أجسامها وأدمغتها أكبر بكثير من الرئيسات الأسبق. ثم تطورت منها سلالات جديدة ملائمة لحياة السهوب التي بدأت تمتد على حساب الغابات بسبب تغير المناخ.
كانت هذه السلالات أفضل من فصائل القرديات، أي القردة والقردة الكبيرة ، في مواجهة الظروف الجديدة. وكانت بعضها تمشي منتصبة وتستطيع الجري بصورة لا تقدر عليها القرود. من هذه السلالات نشأ الخط التطوري المسمى البشريات. وتشير بقايا المستحاثّات إلى إمكانية تميز كائنات عاشت بين ثلاثة إلى أربعة ملايين سنة مضت يمكن اعتبارها من بين "أجدادنا". وتوجد أول آثارها في جنوب أفريقيا وشرقها، حيث جرت اكتشافات في تنزانيا الحالية في موقع يدعى ممر أولدفاي في خمسينيات القرن العشرين قلبت الأفكار التي كانت سائدة قبلها حول أصول البشر رأساً على عقب. وطوال الأربعين عاماً التالية راحت اكتشافات العلماء الجديدة توسع المجال الزمني الذي يدور فيه الجدل حول أصول الإنسان.
صحيح أن اكتشافات أخرى هامة قد حدثت في أفريقيا بعدها، وأن الاستنتاجات الأولى صارت الآن موضوع تساؤلات كثيرة إلا أن البقايا التي وجدت في ممر أولدفاي مازالت أفضل نقطة بداية لسرد ما نعرفه.
لم تبدُ تلك البقايا ذات أهمية كبيرة في البداية، فالبحث الطويل لم يعطِ إلا مجموعة من القطع المتفرقة التي يمكن أن تتسع لها طاولة واحدة كبيرة. لقد وجد أكثر من ألف سن وحوالي اثنتي عشر جمجمة، أما من عظام الحوض فلم يكتشف إلا ثلاثة إضافة إلى لوح كتف واحد وعظام أخرى متفرقة. ولكن أهمية هذا الاكتشاف تكمن في أن هذه العظام كانت بقايا كائنات من نوع غير معروف سابقاً. سمي قرد الجنوب الأفريقي Australopithecus africanus وبدا أن عمر تلك البقايا بين مليونين وثلاثة ملايين سنة.



قرد الجنوب الإفريقي

كان طول قرد الجنوب هذا حوالي أربعة أقدام ، وكان حوضه وساقاه وقدماه أقرب إلى البشر منها إلى القردة، أما جمجمته فكانت أشبه بالشكل القردي وتحمل دماغاً أكبر من حجم دماغ الغوريلا إضافةً إلى فك ضخم. وكانت طرفاه الأماميان ينتهيان بيدين حقيقيتين، ورؤوس أصابعه منبسطة النهايات مثل أصابع البشر. كما يمكننا استنتاج بعض الأمور عن سلوكه أيضاً، إذ تشير الأدلة إلى إقامته في المكان نفسه لفترات طويلة، ويعتقد العلماء أن ممر أولدفاي يقدم أول دليل على قيام البشريات بعمليات البناء، لأنهم وجدوا حاجزاً لاتقاء الريح مبنياً من الحجارة.
من المؤكد أن تلك الكائنات كانت من آكلات اللحم، إذ وجدت أيضاً عظام سحقت لاستخراج النقي منها والدماغ من الجماجم وبما أنه لم تكن هناك نار لطهيها فلابد أنهم كانوا يأكلونها نيئة. كان هذا اللحم على الأرجح لحم جيف وجدوه أثناء بحثهم عن الطعام، ولكن تناول اللحم أمر ذو أهمية كبيرة، لأنه في الحقيقة طعام مركّز، لذلك لا يحتاج من يتناوله إلى الأكل على نحو دائم أو متكرر.
ومن ناحية أخرى يمثل تناول اللحم مشاكل تقنية، لأن سحق العظام وكشط الجلد واللحم لا يمكن أن تكون عملية سهلة بالنسبة لكائنات متحدّرة من كائنات نباتية، فهي ليس لها الأسنان والمخالب الحادة التي تملكها بعض الثدييات الأخرى.
لقد كانوا إذا ً بحاجة إلى مساعدة في حل هذه المشاكل، وربما كان في هذا الأمر تفسير لواحدة من أكثر الحقائق إثارةً بين اكتشافات أولدفاي، ألا وهي أن قرد الجنوب كان صانع أدوات.