+ الرد على الموضوع
صفحة 5 من 5 الأولىالأولى ... 3 4 5
النتائج 41 إلى 46 من 46

الموضوع: تاريخ العالم

  1. #41

    • عبير العبير غير متواجد حالياً
    • مساعد الادارة

    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    5,146

    افتراضي رد: تاريخ العالم

    الحديد والمدن

    كانت مرحلة التشو قد انتهت باضطرابات اجتماعية متزايدة، سببها الأرجح هو ضغط السكان على الموارد. ولهذا كان الحديد عاملاً هاماً جداً، ويبدو أنه كان مستعملاً في حوالي عام 500 ق.م، وقد أدى استخدامه إلى ارتفاع حاد في الإنتاج الزراعي، وبالتالي في عدد السكان، مثلما حدث في أماكن أخرى.
    وتعود أولى الأدوات الحديدية التي وجدت إلى القرن الخامس ق.م، أما الأسلحة الحديدية فقد ظهرت في زمن لاحق.
    ومنذ تاريخ باكر كانت هذه الأدوات تصنع عن طريق السبك، وقد وجدت قوالب لسبك شفرات المناجل الحديدية تعود إلى القرن الرابع أو الخامس، أي أن تقنية الصين في معالجة هذا المعدن كانت متقدمة جداً منذ أزمنة باكرة.
    وسواء أحدث هذا الأمر كتطور لسبك البرونز أو للتجريب في أفران الخزف القادرة على إعطاء درجات حرارة عالية، فإن الصين قد توصلت إلى سبك الحديد في نفس الوقت الذي عرفت فيه معالجته بالتطريق، بينما لم تصل مناطق العالم الأخرى إلى درجات حرارة كافية لسبكه إلا بعد نحو خمسة عشر قرناً.

    هناك تطور هام آخر في أواخر عهد التشو هو نمو المدن، لقد نشأت أبكر المدن على الأرجح في مواقع المعابد التي كان أصحاب الأراضي يستخدمونها كمراكز إدارية لأملاكهم، فكانت الجماعات تتجمع من حولها ومن حول معابد آلهة الطبيعة الشعبية القائمة عادة في السهول قرب الأنهار.
    وتجد على عهد الشانغ متاريس مصنوعة من التراب المضروب وأحياء أرستقراطية ومسورة وبقايا أبنية كبيرة. كانت آنيانغ عاصمة للشانغ في حوالي عام 1300 ق.م، وكانت فيها مسابك للمعادن وأفران للخزف فضلاً عن قصور ومقبرة ملكية.
    أما عاصمة التشو بعدها فكانت وانغ تشنغ، وكانت بشكل مستطيل من الأسوار الترابية يبلغ طول كل منها حوالي ثلاثة كيلو مترات. وفي عام 500 ق.م ظهرت عشرات المدن، وكانت لها في العادة ثلاثة مناطق محددة: بقعة صغيرة مسورة تعيش فيها الأرستقراطية، وبقعة أكبر يسكنها الحرفيون المختصون والتجار، ثم الحقول خارج الأسوار التي تغذي المدينة. كانت أحياء التجار إذن مفصولة عن أحياء الأرستقراطية بأسوار ومتاريس تحيط بالأخيرة، ولكنها كانت هي أيضاً واقعة ضمن أسوار المدينة، وهي علامة على تزايد الحاجة للحماية. كما كنت تجد الشوارع التجارية للمدن في مرحلة الدول المتحاربة محالاً تبيع المجوهرات والتحف الغريبة والطعام واللباس، عدا عن الحانات وبيوت القمار والبغاء.

    إلا أن قلب مجتمع الصين قد ظل بالرغم من ذلك في الريف، ومع نهاية حقبة التشو صارت طبقة أصحاب الأراضي تبدي علامات لا لبس فيها على استقلال متزايد عن ملوكها.
    كانت سيطرتها الاقتصادية متأصلة في امتلاكها للأرض بحكم العرف، وهذه الملكية التي يمنحها الملك نظرياً لا تقتصر على الأراضي وحدها، بل تشمل أيضاً العربات والحيوانات والأدوات، وبالأخص البشر، فالعمال يمكن بيعهم أو مبادلتهم أو توريثهم بوصية. وكان النبلاء يحتكرون الأسلحة باستمرار، وبمرور الزمن لم يعد أحد غيرهم بقادر على امتلاك الأسلحة الأغلى ثمناً والدروع والخيول التي مابرح استخدامها يتزايد.
    وفي عام 600 ق.م بدا من الواضح أن ملك التشو قد صار خاضعاً لكبار النبلاء، وكانت الفوضى تتزايد وكذلك الشك بالمعايير التي تحدد الحق بالحكم، وقد بلغت هذه التطورات ذروتها في الأزمة الاجتماعية والسياسية العميقة والمديدة التي ظهرت في قرون الانحلال الأخيرة من عهدي التشو والممالك المتحاربة، وأدت إلى فورة هامة من الأفكار حول أسس الحكم والأخلاق. فكان هناك مدرسة من المعلمين يسمون "القانونيين" يشددون على أن سلطة التشريع وليس أداء الطقوس
    [2]يجب أن تكون هي المبدأ الأساسي في الدولة، وأن يكون هناك قانون واحد للجميع، يضعه حاكم واحد ويطبقه بحزم شديد.
    وقد استهجن البعض هذه الأفكار واعتبروها عقيدة مشككة ومؤيدة للسلطة، ولكنها اجتذبت الملوك في القرون القليلة التالية، وقد استمر الجدال زمناً طويلاً. إن أكثر من انتقد القانونيين هم أتباع أشهر معلمي الصين قاطبة ”كونفوشيوس”.


    كونفوشيوس والثقافة الصينية

    إن اسم كونفوشيوس هو الشكل اللاتيني لاسمه الأصلي كونغ فو تزو، وقد أطلق عليه الأوروبيون اسم كونفوشيوس هذا في القرن السابع عشر، أي بعد مرور أكثر من ألفي سنة على ولادته التي حدثت في منتصف القرن السادس ق.م وسوف يكون له في الصين توقير أعمق من أي فيلسوف آخر، لأن ما قاله ونسب إليه قد صاغ تفكير مواطنيه طوال ألفي سنة. كان كونفوشيوس ينتمي لعائلة من قراء الوحي من طبقة النبلاء الأدنى، وقد أمضى بعض الوقت وزيراً للدولة ومشرفاً على أهراء الحبوب، وكانت لديه أفكار وتوصيات حول أسس الحكم العادل، ولكنه عجز عن إيجاد حاك يطبقها بصورة عملية، فتحول عندئذٍ إلى التأمل والتعليم.
    وكانت غايته هي أن يقدم صيغة نقية ومجردة للحقائق التي كان يؤمن أنها كامنة في جوهر الممارسات التقليدية، وأن يعيد بذلك إحياء الاستقامة الشخصية والخدمة المنزهة عند الطبقة الحاكمة.
    كان كونفوشيوس رجلاً محافظاً مصلحاً، وكان يؤمن أن هناك في الماضي عصراً أسطورياً كان كل إنسان فيه يعرف مكانه ويؤدي واجبه، وكانت العودة إلى ذلك العصر هي غايته الأخلاقية. وكان يوصي بمبدأ النظام أي وضع كل شيء في مكانه الصحيح ضمن تجربة الحياة الكبرى، وقد تجلى هذا الأمر في نزعة قوية لتأييد المؤسسات التي تحافظ على ذلك النظام، مثل العائلة والتسلسل الهرمي والأقدمية، وفي احترام الواجبات الكثيرة والمتدرجة التي تربط بعضها ببعض. وكان من شأن هذه التعاليم أن تعطي رجالاً يحترمون الثقافة التقليدية، ويشددون على قيمة الأعراف السليمة والسلوك القويم، ويسعون إلى تحقيق واجباتهم الأخلاقية في الأداء الدقيق لمهامهم.

    لقد نجحت هذه التعاليم نجاحاً فورياً من ناحية أن الكثيرين من تلاميذه قد اكتسبوا شهرة ونجاحاً دنيويين مع أن تعاليمه تستنكر السعي المقصود نحو هذه الأهداف، وتحض على إنكار الذات بشهامة، ولكنها نجحت أيضاً من ناحية أعمق وأطول عمراً بكثير، لأن أجيالاً من الموظفين الصينيين سوف تدرب على مبادئ السلوك والحكم التي وضعها.
    لقد صارت نصوص كونفوشيوس، وليست كلها أصلية، تعامل بما يشبه الخشوع الديني، واستخدمت لقرون طويلة بصورة موحدة وخلاقة من أجل قولبة أجيال من حكام الصين ضمن مبادئ كان يعتقد أنه قد وافق عليها، ويلفت النظر هنا التشابه مع استخدام الكتاب المقدس المسيحي في زمن لاحق، على الأقل في البلاد البروتستانتية، إلا أن كونفوشيوس لم يقل أشياء كثيرة حول أمور ما فوق الطبيعة، فهو لذلك لم يكن معلماً دينياً بالمعنى المألوف للكلمة، وربما لهذا السبب حقق معلمون آخرون نجاحاً أكبر منه بين الجماهير، بل كان همه الأكبر هو الواجبات العملية. ويبدو أن الفكر الصيني اللاحق أيضاً لم يهتم كثيراً بالأمور النظرية، مثل حقيقة عالم الحواس أو إمكانية الخلاص الفردي، بعكس تقاليد فكرية أخرى أرقتها هذه الأفكار، كما أن الفلاسفة الصينيين لم يهتموا كثيراً بوضع مخطط للمعرفة عبر الاستجواب المنهجي لطبيعة العقل ومدى قدراته، بل صاروا يهتمون بعبر الماضي وحكمة الأزمان الغابرة والحفاظ على النظام السليم، أكثر من تأمل الألغاز الثيولوجية والأحاجي الفلسفية، أو البحث عن الأمان بين ذراعي آلهة غامضة.
    ولا تدين التقاليد الفكرية الصينية بعد كونفوشيوس بالكثير لتعاليم الأفراد، بعكس التقاليد الأوروبية التي تقوم على الاستجواب المنهجي.

    ومع ذلك فقد ظهرت أنظمة فكرية منافسة للكونفوشيوسية، فهناك المعلم لاوتسه، وهو حكيم ذائع الصيت جداً، مع أننا في الحقيقة لا نكاد نعلم عنه شيئاً، ويقال إنه مؤلف النص الذي يعتبر الوثيقة الأساسية في نظام فلسفي سمي فيما بعد ”بالطاوية”. يدعو هذا النظام إلى الإهمال المقصود لأشياء كثيرة تؤيدها الكونفوشية، مثل احترام النظام السائد واللياقة والتقيد الدقيق بالتقاليد والطقوس، كما تحض الطاوية على الخضوع لمفهوم كان موجوداً في الفكر الصيني أصلاً ومألوفاً لدى كونفوشيوس، هو مفهوم الطاو أو ” الطريق”، وهو المبدأ الكوني الذي يتخلل الكون المتناغم ويدعمه.
    ومن الناحية العملية يؤدي هذا التفكير إلى الاستكانة السياسية والزهد واتخاذ البساطة والفقر مثالاً. كما أن ثمة حكيماً آخراً أتى لاحقاً في القرن الرابع هو منشيوس (منغ تزو)، علم الناس أن يسعوا لخير البشرية، فكانت تعاليمه تطويراً لتعاليم كونفوشيوس وليست افتراقاً عنها.
    والحقيقة أن جميع مدارس الفلسفة الصينية كان عليها أن تحسب حساب تعالم كونفوشيوس، إذ أنها قد حظيت بمكانة ونفوذ عظيمين. ولا يمكنك أن تقيم التأثير الكامل لتعاليمه، التي لم تبلغ فترة نفوذها الكبرى إلى بعد موته بزمن طويل، إلا أنه قد وضعت المعايير والمثل للنخب الإدارية حتى يومنا هذا. وكانت تركز على اهتمام كبير بالماضي سوف يعطي كتابة التاريخ في الصين نزعة منحازة ومميزة لها، وربما كانت لها تأثيرات ضارة على البحث العلمي، وقد تغلغل الكثير من مبادئها أيضاً مثل توقير الأجداد في الثقافة الشعبية من خلال القصص والمواضيع التقليدية للفن، فزادت بذلك من تمتين حضارة الصين التي كانت ملامحها اللافتة قد ترسخت بحلول القرن الثالث ق.م.

    مازال فن الصين أكثر جوانب حضارتها القديمة جاذبية وقرباً، ولم يبق شيء هام من عمارة الشانغ والتشو لأنهم كانوا يبنون بالخشب عادة، كما أن المدافن لا تكشف عن أشياء كثيرة.
    ولكن من ناحية أخرى دلت الآثار على قدرة لتشييد الأبنية الكبرى، فقد كان سور إحدى عواصم التشو مصنوعاً من تراب مضروب علوه ثلاثون قدماً أي (تسعة أمتار)، وثخانته أربعون قدماً أي (اثنا عشر متراً)، كما أن الأغراض الصغيرة والكثيرة الباقية تدل على أن هذه الحضارة كانت قادرة على صنع أعمال رائعة منذ أيام الشانغ، وينطبق هذا بالأخص على الخزف، الذي لم يكن يضاهيها فيه أحد في العالم القديم، فضلاً عن أشغال البرونز العظيمة، والتي بدأت تصنع في أوائل عصر الشانغ، ثم استمرت بعد ذلك بلا انقطاع.
    كان فن سبك أوعية القرابين والقدور وجرار النبيذ والأسلحة والأوعية الثلاثية الأقدام قد بلغت ذروته منذ عام 1600 ق.م، ويظهر سبك البرونز بصورة مفاجئة وعلى مستوى عال من الإتقان جعل البعض يحاولون تفسيره بانتقال التقنية من الخارج، ولكن ليس هناك دليل على ذلك.
    كما أنه ليس هناك دليل على أن أشغال البرونز الصينية قد بلغت العالم الخارجي في الأزمنة الباكرة، إذ لم يكتشف أي عمل في أي مكان آخر يعود لما قبل منتصف الألف الأولى ق.م.
    وحتى في الأزمنة الأبكر لم يكتشف خارج الصين أي من الأشياء الأخرى التي أولاها الفنانون الصينيون اهتمامهم الكبير مثل حفر الرسوم الجميلة والدقيقة على الحجر والحجر اليشب.
    ويبدو أن الصين لم تصبح لها علاقات هامة بالعالم الخارجي إلا في زمن متقدم من الحقبة التاريخية فيما عدا بعض الأشياء القليلة التي تعلمتها من جيرانها البرابرة. فكان مثلها مثل حضارة الهند، في أنها لم تبد نزعة قوية للتوسع خارج مهدها، على عظمته.


    * نوع من الزراعة يمارس في المنطقة الجافة من دون ري، بالحفاظ على طبقة رقيقة من التربة المحروثة أو المهاد تمنع الرطوبة الطبيعية للتربة من التبخر.
    [2] النص الأصلي تنقصه كلمة وليس وقد استوى المعنى بعد مراجعة النسخة الأكبر من تاريخ العالم

    لِنسعَ إخوتي إلى العلا هيا
    نتجاوز الضياء مداه ونعدو الثريا

  2. #42

    • عبير العبير غير متواجد حالياً
    • مساعد الادارة

    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    5,146

    افتراضي رد: تاريخ العالم


    تفاعل وتبادل

    في عام 1000 ق.م كانت قد ظهرت أنماط عديدة من الحضارة في الشرق الأدنى وشرق المتوسط، وكانت أنماط أخرى قد زالت. وكانت القوى العظمى قد ألفت التعامل إحداها مع الأخرى عبر هذه المنطقة من خلال الدبلوماسية الرسمية، بينما كان الحرفيون والتجار والمرتزقة يتحولون فيها بحثاً عن معيشتهم، والناس يتبادلون الأفكار وأساليب الفن والمهارات التقنية في كافة أنحائها. وكانت تلك بحق أول مجموعة عالمية من المجتمعات. ولقد بقيت هذه المنطقة لزمن طويل المكان الوحيد في العالم الذي يبدي هذه الحيوية والتبادل الخلاق، وفيها يمكنك أن تميز بدايات تيارات سوف تسيطر على تاريخ العالم في قرننا هذا.
    وإن أفضل نقطة للبدء بفهم الأمور هي مرة ثانية تحركات الشعوب وترحالها. تفسر تلك الهجرات جزءاً كبيراً من التبدّلات الدينامية الجارية، فطوال الألف الثاني ق.م يظهر في كل من الهند وإيران وبلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر وبحر إيجة تأثير الشعوب التي نسمي لغاتها هندية أوروبية.
    تقول إحدى الفرضيات إن الهنود الأوروبيين قد أتوا من جنوب روسيا، وكان ذلك على الأرجح قبل عام 2000 ق.م بزمن طويل، وربما كان السبب أن التغيرات المناخية في آسيا الوسطى قد دفعت شعوباً أخرى في الشرق إلى الهجرة غرباً فشكلت بذلك ضغطاً على "الهنود الأوروبيين" ودفعتهم بدورهم.
    ومن الطرق التي سلكوها طريق تمتد في شبه جزيرة البلقان نزولاً إلى اليونان وتراقيا، ومن هناك عبر الأناضول.
    وفي هذه الأثناء كان هنود أوربيون آخرون قد نزلوا عبر القوقاز، ومن تركستان إلى بلخ وإيران والهند، وإن اسم إيران مرادف لصفة ”آري
    Aryan وعدا عن الهنود الأوروبيين الذين كانوا في منطقة الدانوب بجنوب شرق أوروبا، كان آخرون قد تحركوا غرباً إلى ألمانيا وشمال فرنسا بل وحتى الجزر البريطانية، ولكن لنترك قصتهم لمرحلة لاحقة.

    في الهلال الخصيب دخلت هذه الشعوب صراعاً مع الإمبراطوريات القديمة التي كان تسيطر عليه منذ الإطاحة بسومر وكانت الشعوب السامية تنتقل فيه أيضاً.
    ويخبرنا العهد القديم من الكتاب المقدس المسيحي أن إبراهيم، الذي يعتبره اليهود الآن في بداية تاريخهم التقليدي، قد انطلق من أور عبر بلاد الرافدين والشام سعياً إلى المرعى، وهي على الأرجح قصة حفظتها ذاكرة الشعوب. وكانت هناك قبائل كثيرة تنتقل في ذلك الحين، كما أن الهنود الأوروبيين كانوا أيضاً رعاة رحل، وتتنازع فيما بينها على الكلأ والماء في الهلال الخصيب، وقد انجذبت تلك الشعوب إلى الثقافات المتطورة التي كانت في هذه البلاد، وراحت تستعير منها وتقلدها.

    ولابد أن تكون الهجرة قد سرعت في انتشار الحضارة بصورة كبيرة، والدليل على هذا هو انتشار الكتابة. في عام 2000 ق.م كانت الكتابة محصورة إلى حد كبير بحضارات وديان الأنهار، ولو أن المسمارية كانت منتشرة في كافة أنحاء بلاد الرافدين وكانت تكتب بها لغتان أو ثلاث؛ ففي مصر مثلاً كان يحفر على الصروح بالكتابة الهيروغليفية، وكانت الكتابة اليومية تتم بشكل مبسط منها يدعى الهيراطية، أما المسمارية فكانت مستخدمة في الدبلوماسية.
    ولكنك بعد حوالي ألف سنة صرت تجد شعوباً تعرف الكتابة في كافة أنحاء الشرق الأدنى، وفي كريت واليونان أيضاً، ويمكن تمييز هذه الشعوب من خلال لغاتها المختلفة.
    كما أنها كانت تخترع كتابات جديدة، ففي كريت مثلاً تجد في حوالي عام 1500 ق.م كتابة كانت مستخدمة لتدوين شكل من اللغة اليونانية، أي أنها تصل بك إلى مشارف عالم جديد. وإن أول كتابة دوّن بها أدب غربي كانت مستخدمة في عام 800 ق.م، وهي مشتقة من أبجدية اخترعت لكتابة لغة سامية ومأخوذة من الفينيقيين.

    يتبع

    لِنسعَ إخوتي إلى العلا هيا
    نتجاوز الضياء مداه ونعدو الثريا

  3. #43

    • عبير العبير غير متواجد حالياً
    • مساعد الادارة

    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    5,146

    افتراضي رد: تاريخ العالم



    التجارة والسفر

    إن الأسفار البعيدة هي مثل اللغة علامة على التغير ومحرك له في الوقت نفسه، ولا تجد في البداية أدلة على الأسفار البعيدة إلا في بعض الآثار، مثل أرصفة مرافئ هرابا أو بعض الأختام الأجنبية.
    وتدل هذه الآثار على أن القصدير كان يجلب من بلاد الرافدين وأفغانستان والأناضول إلى ما يمكن أن نسميه الآن مراكز ”تصنيع”، كما تجد نحاس قبرص في أماكن كثيرة، ويستنتج من هذا أنه كان سلعة يتاجر بها على نطاق واسع، وكذلك نحاس بر أوروبا، لأنه هناك مناجم بأرض يوغوسلافيا السابقة كانت محفورة حتى عمق ستين أو سبعين قدماً (20 متراً) تحت سطح الأرض قبل عام 4000 ق.م.
    أما بالنسبة للمواد غير المعدنية، فيذكر الكتاب المقدس شهرة خشب أرز لبنان الذي كان يصدر لمصر، كما كان الكهرمان يجلب من البلطيق إلى بحر إيجة، والتوابل من الشرق الأدنى عبر البحر الأحمر إلى مصر، كل هذا قبل عام 1000 ق.م.
    وقد تغيرت الجغرافية الاقتصادية ببطء مع نمو هذه الروابط، فظهرت مراكز برعت بالتجارة وازدهرت ازدهاراً عظيماً. لقد تعاطى الكريتيون والشعوب الباكرة في بر اليونان التجارة إلى حد كبير، وكانت البحرين تجتذب التجار من بلاد الهند وبلاد الرافدين. ومع اقتراب الألفية من نهايتها كان أعظم شعوب بالتجارة في العالم القديم، أي الشعب الفينيقي المقيم في المدن الساحلية لبلاد الشام، على باب عصر ذهبي من الازدهار.


    كان حمل البضائع الكبيرة صعباً، أقله عن طريق البر، لأنه بقي يعتمد على الحمير إلى أن دجّنت الجمال في منتصف الألفية الثانية ق.م، وقد فتح تدجين الجمال تجارة القوافل في آسيا وشبه الجزيرة العربية.
    أمّا النقل بالعجلات فيبدو أن أهميته بقيت محلية لزمن طويل بسبب رداءة الطرق ورداءة محاور العجلات أيضاً، مع أن العربات كانت تستخدم في بلاد الرافدين في نحو عام 3000 ق.م، وفي سوريا نحو عام 2250 ق.م، وفي الأناضول بعد ذلك بقرنين أو ثلاثة، وفي بر اليونان في نحو عام 1500 ق.م. إلا أن نقل البضائع بكميات كبيرة كان أبسط وأرخص عن طريق الماء منه عن طريق البر، وسوف يظل كذلك حتى عصر القطار البخاري.

    كانت شعوب العصر النيوليتي تقوم برحلات طويلة عبر البحر في زوارق الكنو المحفورة، وقد أمن المجداف القوة الدافعة للقيام برحلات بحرية طويلة فضلاً عن تحسين التحكم بحركة القارب.
    بعد ذلك وضع مصريو السلالة الثالثة شراعاً على سفينة عابرة للبحار، وكان الساري المركزي والشراع المستطيل بداية الإبحار بالاعتماد على قوة غير تيارات المياه وعضلات الإنسان.
    وقد تحسنت الأشرعة ببطء على مدى الألفين التاليين، إلا أن سفن الأزمنة القديمة كانت في أكثر الأحيان ذات أشرعة مستطيلة، لذلك كانت الرياح السائدة هي التي تحدد نمط الاتصالات البحرية.
    مع هذا كان التجار يتبادلون البضائع ويكسبون المال بصورة متزايدة عن طريق البحر، وقبل قوافل الجمال بزمن طويل كانت السفن تحمل ضروب الصمغ والراتنج من جنوب شبه الجزيرة العربية شمالاً على طول البحر الأحمر، وكانت سفن أخرى تجوب في أنحاء نهر إيجة، وفي القرن الثالث عشر ق.م كانت تبحر في شرق المتوسط سفن قادرة على حمل أكثر من 200 سبيكة نحاسية، وبعد قرون قليلة صار بعضها مزوداً بظهر سدود للماء.

    ولكن طبيعة هذا التبادل تبقى غير واضحة، حتى في عام 1000 ق.م، ويبدو أن الناس كانوا يتبادلون البضائع والخدمات قبل أن يتحضروا، ولكن ربما كان هذا الأمر أشبه بعملية إعادة توزيع متفق عليها ضمن الجماعة. في الأزمنة التاريخية صار لبعض الشعوب زعماء يرأسون مخزناً مشتركاً، ويملكون بمعنى ما كل ما يخص الجماعة، ثم يوزعونها على أفرادها من أجل ضمان أعمالها بصورة سلسة، وربما يفسر هذا الأمر تخزين البضائع والمؤن في المعابد السومرية.
    لقد مر زمن طويل قبل أن تظهر أي وسيلة للتبادل معترف بها على نطاق واسع أي ما نسميه النقد ونجد أول دليل عليه في بلاد الرافدين، حيث كانت الحسابات تسجل بمكاييل من الحبوب أو الفضة قبل عام 2000 ق.م، كما يبدو أن مسكوكات النحاس كانت أحياناً تستخدم كوحدات مالية في قسم كبير من المتوسط في أواخر عصر البرونز.
    إلا أن أول وسيلة للتبادل مختوماً ختماً رسمياً بقيت لنا قد أتت من كَبَدوقية* في أواخر الألف الثالثة ق.م، وكانت عبارة عن مسكوكات فضية، وهي عملة معدنية حقيقية.
    ومع هذا لم تظهر أولى قطع النقد حتى القرن السابع ق.م وكان الناس قبلها يتدبرون أمورهم من دونها
    فالفينيقيون مثلاً، وهم مشهورون بحذقهم وفطنتهم في شؤون التجارة، لم تكن لديهم عملة حتى السادس ق.م، ومصر التي كانت نظاماً اقتصادياً ذا إدارة مركزية لم تتخذ النقد إلا بعد ذلك بقرنين.
    إلا أن هذا الأمر لم يمنع الناس من تبادل البضائع، ولا يمكننا أن نسمي عمليات التبادل تلك "تجارة" بمعناها الحالي، كما أنه ليس من الواضح ما إذا كانت السوق في العالم القديم دوماً مكاناً يتوصل الناس فيه إلى قيم السلع عن طريق المساومة. عندما تبدأ حقبة السجلات التاريخية تجد أدلة على انتقال السلع بصورة جزية أو هدايا رمزية أو دبلوماسية بين الحكام أو بصورة عطايا نذرية. لقد ظلت الإمبراطورية الصينية حتى القرن التاسع عشر الميلادي تعتبر تجارتها مع الدول الأخرى جزية من العالم الخارجي، وكان الفراعنة أيضاً ينظرون إلى تجارتهم مع بحر إيجة نظرة مشابهة، كما يبدو من رسوم مدافنهم. وربما شملت هذه العمليات التجارية تبادل أغراض موحدة مثل الأوعية أو القدور ذات الوزن الواحد، أو الخواتم ذات الحجم الواحد، فكانت لها بذلك بعض خواص العملة.



    *
    اسم أطلق قديماً على آسيا الصغرى

    لِنسعَ إخوتي إلى العلا هيا
    نتجاوز الضياء مداه ونعدو الثريا

  4. #44

    • عبير العبير غير متواجد حالياً
    • مساعد الادارة

    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    5,146

    افتراضي رد: تاريخ العالم



    الحضارة الإيجية*

    كانت الحياة في الشرق الأدنى وشرق المتوسط في الألف الثانية ق.م غنية بالروابط المشتركة والتفاعل المتبادل، إلا أن بعض مراكز الحضارة فيها كانت على درجة بارزة من النجاح والأهمية، وكانت جزيرة كريت واحدة من تلك المراكز، وهي أكبر الجزر اليونانية.
    طوال الأزمنة النيوليتية كان يعيش في كريت شعب متقدم ربما كان له اتصالات بالأناضول، ولكن الأدلة غير حاسمة، إلا أن شيئاً ما قد حفزه على القيام بإنجازات لافتة.
    ففي حوالي عام 2500 ق.م كانت هناك مدن وقرى هامة مبنية من الحجر والقرميد على سواحل كريت يمارس سكانها شغل المعادن وقص الأختام والمجوهرات، وكانوا يشتركون بقسم كبير من ثقافة بر اليونان وآسيا الصغرى، ويتبادلون البضائع مع جماعات إيجية أخرى.
    ثم حصل تغير هام، ففي حوالي عام 2000 ق.م بدؤوا يبنون قصوراً كبيرة هي أهم صروح الحضارة التي نسميها الحضارة المينوية، وكان أعظم تلك الصروح هي قصر كنوسوس الذي بني للمرة الأولى في حوالي عام 1900 ق.م، ولا تجد في أي من الجزر الأخرى شيئاً يضاهيه في عظمته وأبهته.


    * إيجة بحر بين اليونان وتركيا الحاليتين، من متفرعات المتوسط

    لِنسعَ إخوتي إلى العلا هيا
    نتجاوز الضياء مداه ونعدو الثريا

  5. #45

    • عبير العبير غير متواجد حالياً
    • مساعد الادارة

    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    5,146

    افتراضي رد: تاريخ العالم


    مينوا

    إن الحضارة المينوية هي التسمية التي تطلق على حضارة كريت في عصر البرونز، والتي سوف تصير لها هيمنة ثقافية على كافة منطقة بحر إيجة تقريباً، وليس لهذه التسمية معنى آخر.
    وهي مشتقة من اسم الملك الأسطوري مينوس، الذي قد لايكون له وجود حقيقي. لقد اعتقد الإغريق بعد ذلك بزمن طويل أو قالوا إن مينوس كان حاكماً عظيماً يعيش في كنوسوس ويتداول مع الآلهة، وإنه تزوج باسيفايه ابنة الشمس، التي ولدت وحشاً هو المينوتور، كان يلتهم الشبان والصبايا المرسلين تقدمة له من اليونان في قلب متاهة، إلى أن نجح البطل ثيزنوس أخيراً في اختراق تلك المتاهة وذبح فيها وحش المينوتور.
    إن هذا الموضوع غني ويوحي بالكثير، ولكن ليس من دليل يؤيد القصة، وربما كان اسم مينوس لقباً يطلق على عدد من الحكام الكريتيين.

    لقد استمرت الحضارة المينوية نحو ستمائة سنة، ولكننا لا نعلم إلا الخطوط العامة لتاريخها، كانت مدنها كلها تعتمد على قصر كنوسوس، وقد ازدهرت طوال ثلاثة أو أربعة قرون، وكانت تتاجر إذا صح التعبير مع مصر وبر اليونان.
    في أواخر الأزمنة النيوليتية أدى تطور الزراعة إلى تحسن زراعة الحبوب في كريت وإلى زراعة الزيتون والكرمة أيضاً، ويبدو أن الجزيرة كانت في ذلك الزمان كما هي اليوم أنسب مناخاً وأرضاً حتى من بقية جزر بحر إيجة وبر اليونان لزراعة هاتين النبتتين، اللتين سوف تصير لهما أهمية كبيرة في زراعة المتوسط، فيما بعد.
    كانت زراعة الزيتون والكرمة ممكنة حيث لا يمكن زراعة الحبوب، وقد غير اكتشافهما إمكانيات الحياة في المتوسط، وسمح للتو بازدياد عدد السكان في كريت وأدت زيادة السكان إلى توفر إمكانيات جديدة، ولكنها اقتضت في الوقت نفسه حاجات أكبر من أجل التنظيم والحكم وتدبير زراعة أكثر تعقيداً والتصرف بالمنتجات الزراعية، وكانت كريت تصدر الصوف أيضاً.




    خريطة لجزيرة كريت تبين مدن كنوسوس وماليا وفايستس


    لِنسعَ إخوتي إلى العلا هيا
    نتجاوز الضياء مداه ونعدو الثريا

  6. #46

    • عبير العبير غير متواجد حالياً
    • مساعد الادارة

    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    5,146

    افتراضي رد: تاريخ العالم


    كريت القديمة

    2600- 2000 ق.م
    المرحلة المينوية: أولى المدن في شرق كريت وغرف الدفن الدائرية
    2000-1570 ق.م
    المرحلة المينوية الوسطى: بناء أول القصور في كنوسوس وماليا وفايستس، اتصالات بمصر واليونان، تبني الكتابة التصويرية
    1700-1600 ق.م
    وصول اللوفيين، ظهور الكتابة الخطية (أ) ، التأثر بأسلوب بناء القصور في بحر إيجة
    1570-1425 ق.م
    المرحلة المينوية الوسطى إلى المتأخرة، تطور التجارة والقوة البحرية، الكتابة الخطية (أ) تحل محل الكتابة التصويرية بناء القصور في كنوسوس وفايستُس وهاجيا تريادا
    حوالي 1500- 1400 ق.م
    تخرب قصر كنوسوس مرتين بسبب الزلازل وإعادة بنائه
    حوالي 1300
    إعادة استيطان فايسيُس وهاجيا تريادا، ظهور مستوطنات جديدة من كنوسوس في غرب كريت
    حوالي 1400-1300 ق.م
    مستوطنات أخائية من ميقينية تبدأ بإزاحة السكان الأصليين، استخدام الكتابة الخطية الأخائية (ب)، النار تدمر قصر كنوسوس
    حوالي 1200 – 1100 ق.م
    الدوريون يدمرون كنوسوس



    بلغت الحضارة المينيوية ذروتها في حوالي عام 1600 ق.م، وبعد قرن واحد تقريباً دمرت قصورها، وربما كان هذا بفعل الزلازل، لأن الأبحاث الحديثة تشير إلى حدوث انفجار بركاني كبير في جزيرة ثيرا* في وقت يوافق هذا الدمار.
    لذلك قيل إن سبب الكارثة قد يكون موجات مدية عاتية وزلازل أصابت جزيرة كريت التي تبعد عنها حوالي سبعين ميلاً (100 كم)، تلاها هبوط غيوم من الرماد خربت حقولها.
    ولكن إذا كان هذا التفسير صحيحاً فإن هذه الكارثة الطبيعية إنما قصمت ظهر ثقافة واحدة ولم تكن نهاية الحضارة الباكرة في كريت، لأنها سوف تعرف أزمنة مزدهرة بعد.
    ورغم أن سيادة حضارتها الأصلية زالت، فإن شعباً من اليونان سوف يأتي ويسكنها لمدة قرن آخر عرفت فيه الازدهار من جديد.
    إلا أنها في بداية القرن الرابع عشر ق.م خربت مرة ثانية بفعل الحرائق ولم يتم بناؤها من بعدها، وهكذا تنتهي قصة حضارة كريت الباكرة.




    قصر كنوسوس


    بعد أكثر من ألف سنة كانت التقاليد اليونانية تقول إن كريت المينوية كانت تسيطر على بحر إيجة بفضل قوتها البحرية ولكن هذه الفكرة قد ضخمت كثيراً، فربما كان للمينويين سفن كثيرة ولكن من المستبعد أن يبلغوا حد الاختصاص في ذلك التاريخ الباكر، ولا يمكنك في عصر البرونز أن تميز بين التجارة والقرصنة، والقرصنة المضادة.
    إلا أن المينويين كانوا على كل حال مطمئنين إلى الحماية التي يؤمنها لهم البحر، إذ أنهم كانوا يعيشون في مدن غير محصنة قريبة من الساحل وعلى أرض غير مرتفعة كثيراً.
    وقد استغلوا البحر مثلما استغلت شعوب أخرى بيئاتها الطبيعية، وحفزهم هذا الأمر على تبادل البضائع والأفكار، فكانت لهم ارتباطات وثيقة بسوريا قبل عام 1550 ق.م، وكانت بضائعهم تنقل على سواحل بحر الأدرياتيك.
    والأهم من هذا هو تغلغلهم في اليونان، فربما كان المينويون أهم منفذ انتقلت من خلاله بضائع وأفكار الحضارات الأولى في أوروبا في عصر البرونز.
    وتجد منتجات كريت في مصر أيضاً ابتداء من الألف الثانية ق.م، وتلاحظ تأثير الفن الكريتي في فن المملكة الحديثة، بل إن بعض العلماء يعتقدون أن رجلاً مصرياً كان يقيم في كنوسوس، ربما للإشراف على مصالح هامة، ويقول بعضهم أن المينويين قد حاربوا على جانب المصريين ضد الهكسوس.
    لقد وجدت المزهريات والبضائع المعدنية الكريتية في أماكن عديدة من آسيا الصغرى أيضاً، وكان المينويون يزودون البر بمنتجات كثير غيرها مثل الأخشاب والعنب والزيت وحتى الأفيون، وكانوا بالمقابل يأخذون المعادن من آسيا الصغرى والمرمر من مصر، وبيض النعام من ليبيا، ولقد كان ذلك العالم عالماً نشيطاً.

    لقد مكنت الثروة المينويين من العيش بأبهة، وأجمل شاهد عليها هي قصورهم، إلا أن المدن أيضاً كانت حسنة البناء ومجهزة بأنابيب تصريف مجاري محكمة.
    أما الإنجازات الأخرى فهي فنية أكثر منها فكرية، إذ يبدو أن المينويين قد أخذوا الرياضيات عن مصر وتركوها على حالها وزالت ديانتهم بزوالهم من دون أن تترك شيئاً للمستقبل على ما يبدو، بينما أثر الفن المينوي في أساليب حضارات أخرى ومازال حتى اليوم فناً بديعاً تتجلى عبقريته في صوره، وقد بلغ ذروته في الرسوم الجدارية التي تجدها في القصور والتي تتصف بحيوية وحركة مدهشتين، كما أنه أسلوب أصيل بحق قلدته شعوب ما وراء البحار في كل من مصر واليونان وسوف يساهم هذا الأسلوب من خلال فنون القصر الأخرى أيضاً، خاصة منها فن شغل الأحجار الكريمة والمعادن الثمينة في تحديد أساليب الموضة في الخارج.

    يعطينا الفن المينوي أيضاً أدلة على أسلوب حياة الكريتيين، ويبدو أنهم كانوا يرتدون ملابس قليلة، فالنساء يصورن عاريات الصدر عادة والرجال حليقين، كما تجد صور الأزهار والنباتات بوفرة توحي بتقدير عفوي لنعم الطبيعة. ويبدو أن المينويين لم يجدوا العالم مكاناً منفراً.
    وتشهد على ثروتهم جرار الزيت الكبيرة والجميلة التي وجدت مصفوفة في قصورهم، ويظهر اهتمامهم بالراحة والجمال الأنيق بوضوح في رسوم الدلافين والزنابق التي تزين غرف ملكة مينوية. كما تدل الآثار على عالم ديني فريد لأنه ليس عالماً مرعباً، ولكن ليس بين أيدينا أية نصوص منه، ولا يمكننا أن نعرف شيئاً عن طقوسه.
    إنك تلاحظ كثرة مذابح القرابين والفؤوس ذات الرأسين، كما يبدو أن العبادة كانت تتمحور حول شخصية أنثوية ربما كانت إلهة خصب نيوليتية من اللواتي يظهرن المرة تلو المرة في كافة أنحاء الشرق الأدنى كتجسيد لطاقة الأنثى الجنسية، مثل عشتار وأفروديت في أزمان لاحقة.
    وتراها في كريت ترتدي تنّورة أنيقة، عارية الصدر، واقفة بين أسدين وممسكة بثعبانين. أما وجود إله ذكر فهو أمر غير واضح، ولكن يوحي به ظهور قرني الثور في أماكن كثيرة، والرسوم الجدارية التي تصور هذه الحيوانات النبيلة، خاصة إذا ربطناها بالأساطير اليونانية اللاحقة، لأن أوربا أم مينوس قد أغراها الإله زفس بشكل ثور، كما أن باسيفايه زوجة مينوس ضاجعت ثوراً فولدت وحش المونيتور، الذي كان نصفه ثوراً ونصفه الآخر رجلاً، هذا عدا عن طقوس القفز على الثيران وهي طقوس غامضة ولكنها هامة. وعلى كل حال لا تبدو ديانة كريت ديانة كئيبة، إذ أن اللوحات الجدارية التي تمثل أنواع الرياضة والرقص لا توحي بشعب حزين.

    أما الحكم في الحضارة المينوية فمازال أمراً غامضاً، لقد كان القصر أشبه بمركز اقتصادي، أي أنه كان مخزناً كبيراً للسلع يقوم الحاكم بإعادة توزيعها، وكان معبداً أيضاً ولكنه لم يكن قلعة، وفي فترة نضجه كان مركز بنية عالية التنظيم، ربما كانت مستوحاة من آسيا.
    كان المينويون يعرفون الكتابة ويحفظون السجلات، ولا نعلم شيئاً عن أدبهم، ولكننا نعلم أشياء قليلة عن إدارتهم من خلال مجموعة هائلة مكونة من آلف الرقم وجدت في القصر، وتدل على ما كانت الحكومة تطمح إليه على الأقل، أي الإشراف على الأمور إشرافاً شديداً ومحكماً لا تجد مثيلاً له إلا في إمبراطوريات آسيا وفي مصر.

    مازال الكثير من تلك الرقم عصياً على القراءة، ولكننا نعلم أن أبكرها مدونة بكتابة تصويرية بعض رموزها مأخوذة من مصر، تليها مجموعة مدونة بالكتابة الخطية (أ) ثم مجموعة مدونة بالكتابة الخطية (ب).
    ويتفق العلماء الآن، على أن هذه الكتابة الخطية (ب) هي أول شكل مدون نملكه من اللغة اليونانية، وهي تعود للفترة بين عامي 1450 إلى 1375 ق.م تقريباً. ويوافق هذا التاريخ الأدلة التي تعطيها الآثار عن وصول وافدين جدد من البر الرئيسي، في ذلك الوقت تقريباً، نجحوا في إزاحة سكان كريت الأصليين وأشرفوا على المرحلة الأخيرة من الحضارة المينوية. ويبدو أن هذه الشعوب الوافدة تشكل هي الأخرى جزءاً من قصة الشعوب الهندية الأوروبية التي تظهر مراراً وفي أماكن كثيرة خلال تلك الحقبة الغامضة.
    وفي فترة لاحقة تبعهم آخرون من البر إلى كريت ونجحوا في استيطانها بعد الانهيار الأخير لكنوسوس واختفاء المينويين من تاريخ العالم.


    * سانتورين الحالية

    يتبع


    لِنسعَ إخوتي إلى العلا هيا
    نتجاوز الضياء مداه ونعدو الثريا

+ الرد على الموضوع
صفحة 5 من 5 الأولىالأولى ... 3 4 5

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)

     

المواضيع المتشابهه

  1. تاريخ ونشأة الزّراعة في العالم
    بواسطة عبير العبير في المنتدى الزراعي العام
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 06-12-2012, 11:40 PM
  2. تاريخ صناعة السكر في العالم
    بواسطة محمد كامل في المنتدى المنتدي العام
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 28-04-2011, 11:54 PM
  3. تاريخ مصر القديم
    بواسطة الصباح النجار في المنتدى أخبار الدنيا
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 01-10-2009, 06:34 PM
  4. تاريخ مصر القديمة
    بواسطة الصباح النجار في المنتدى أخبار الدنيا
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-09-2009, 07:04 PM
  5. تاريخ الأسكندرية
    بواسطة خالد محمد كمون في المنتدى أخبار الدنيا
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 13-05-2009, 09:25 PM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك