الحديد والمدن

كانت مرحلة التشو قد انتهت باضطرابات اجتماعية متزايدة، سببها الأرجح هو ضغط السكان على الموارد. ولهذا كان الحديد عاملاً هاماً جداً، ويبدو أنه كان مستعملاً في حوالي عام 500 ق.م، وقد أدى استخدامه إلى ارتفاع حاد في الإنتاج الزراعي، وبالتالي في عدد السكان، مثلما حدث في أماكن أخرى.
وتعود أولى الأدوات الحديدية التي وجدت إلى القرن الخامس ق.م، أما الأسلحة الحديدية فقد ظهرت في زمن لاحق.
ومنذ تاريخ باكر كانت هذه الأدوات تصنع عن طريق السبك، وقد وجدت قوالب لسبك شفرات المناجل الحديدية تعود إلى القرن الرابع أو الخامس، أي أن تقنية الصين في معالجة هذا المعدن كانت متقدمة جداً منذ أزمنة باكرة.
وسواء أحدث هذا الأمر كتطور لسبك البرونز أو للتجريب في أفران الخزف القادرة على إعطاء درجات حرارة عالية، فإن الصين قد توصلت إلى سبك الحديد في نفس الوقت الذي عرفت فيه معالجته بالتطريق، بينما لم تصل مناطق العالم الأخرى إلى درجات حرارة كافية لسبكه إلا بعد نحو خمسة عشر قرناً.

هناك تطور هام آخر في أواخر عهد التشو هو نمو المدن، لقد نشأت أبكر المدن على الأرجح في مواقع المعابد التي كان أصحاب الأراضي يستخدمونها كمراكز إدارية لأملاكهم، فكانت الجماعات تتجمع من حولها ومن حول معابد آلهة الطبيعة الشعبية القائمة عادة في السهول قرب الأنهار.
وتجد على عهد الشانغ متاريس مصنوعة من التراب المضروب وأحياء أرستقراطية ومسورة وبقايا أبنية كبيرة. كانت آنيانغ عاصمة للشانغ في حوالي عام 1300 ق.م، وكانت فيها مسابك للمعادن وأفران للخزف فضلاً عن قصور ومقبرة ملكية.
أما عاصمة التشو بعدها فكانت وانغ تشنغ، وكانت بشكل مستطيل من الأسوار الترابية يبلغ طول كل منها حوالي ثلاثة كيلو مترات. وفي عام 500 ق.م ظهرت عشرات المدن، وكانت لها في العادة ثلاثة مناطق محددة: بقعة صغيرة مسورة تعيش فيها الأرستقراطية، وبقعة أكبر يسكنها الحرفيون المختصون والتجار، ثم الحقول خارج الأسوار التي تغذي المدينة. كانت أحياء التجار إذن مفصولة عن أحياء الأرستقراطية بأسوار ومتاريس تحيط بالأخيرة، ولكنها كانت هي أيضاً واقعة ضمن أسوار المدينة، وهي علامة على تزايد الحاجة للحماية. كما كنت تجد الشوارع التجارية للمدن في مرحلة الدول المتحاربة محالاً تبيع المجوهرات والتحف الغريبة والطعام واللباس، عدا عن الحانات وبيوت القمار والبغاء.

إلا أن قلب مجتمع الصين قد ظل بالرغم من ذلك في الريف، ومع نهاية حقبة التشو صارت طبقة أصحاب الأراضي تبدي علامات لا لبس فيها على استقلال متزايد عن ملوكها.
كانت سيطرتها الاقتصادية متأصلة في امتلاكها للأرض بحكم العرف، وهذه الملكية التي يمنحها الملك نظرياً لا تقتصر على الأراضي وحدها، بل تشمل أيضاً العربات والحيوانات والأدوات، وبالأخص البشر، فالعمال يمكن بيعهم أو مبادلتهم أو توريثهم بوصية. وكان النبلاء يحتكرون الأسلحة باستمرار، وبمرور الزمن لم يعد أحد غيرهم بقادر على امتلاك الأسلحة الأغلى ثمناً والدروع والخيول التي مابرح استخدامها يتزايد.
وفي عام 600 ق.م بدا من الواضح أن ملك التشو قد صار خاضعاً لكبار النبلاء، وكانت الفوضى تتزايد وكذلك الشك بالمعايير التي تحدد الحق بالحكم، وقد بلغت هذه التطورات ذروتها في الأزمة الاجتماعية والسياسية العميقة والمديدة التي ظهرت في قرون الانحلال الأخيرة من عهدي التشو والممالك المتحاربة، وأدت إلى فورة هامة من الأفكار حول أسس الحكم والأخلاق. فكان هناك مدرسة من المعلمين يسمون "القانونيين" يشددون على أن سلطة التشريع وليس أداء الطقوس
[2]يجب أن تكون هي المبدأ الأساسي في الدولة، وأن يكون هناك قانون واحد للجميع، يضعه حاكم واحد ويطبقه بحزم شديد.
وقد استهجن البعض هذه الأفكار واعتبروها عقيدة مشككة ومؤيدة للسلطة، ولكنها اجتذبت الملوك في القرون القليلة التالية، وقد استمر الجدال زمناً طويلاً. إن أكثر من انتقد القانونيين هم أتباع أشهر معلمي الصين قاطبة ”كونفوشيوس”.


كونفوشيوس والثقافة الصينية

إن اسم كونفوشيوس هو الشكل اللاتيني لاسمه الأصلي كونغ فو تزو، وقد أطلق عليه الأوروبيون اسم كونفوشيوس هذا في القرن السابع عشر، أي بعد مرور أكثر من ألفي سنة على ولادته التي حدثت في منتصف القرن السادس ق.م وسوف يكون له في الصين توقير أعمق من أي فيلسوف آخر، لأن ما قاله ونسب إليه قد صاغ تفكير مواطنيه طوال ألفي سنة. كان كونفوشيوس ينتمي لعائلة من قراء الوحي من طبقة النبلاء الأدنى، وقد أمضى بعض الوقت وزيراً للدولة ومشرفاً على أهراء الحبوب، وكانت لديه أفكار وتوصيات حول أسس الحكم العادل، ولكنه عجز عن إيجاد حاك يطبقها بصورة عملية، فتحول عندئذٍ إلى التأمل والتعليم.
وكانت غايته هي أن يقدم صيغة نقية ومجردة للحقائق التي كان يؤمن أنها كامنة في جوهر الممارسات التقليدية، وأن يعيد بذلك إحياء الاستقامة الشخصية والخدمة المنزهة عند الطبقة الحاكمة.
كان كونفوشيوس رجلاً محافظاً مصلحاً، وكان يؤمن أن هناك في الماضي عصراً أسطورياً كان كل إنسان فيه يعرف مكانه ويؤدي واجبه، وكانت العودة إلى ذلك العصر هي غايته الأخلاقية. وكان يوصي بمبدأ النظام أي وضع كل شيء في مكانه الصحيح ضمن تجربة الحياة الكبرى، وقد تجلى هذا الأمر في نزعة قوية لتأييد المؤسسات التي تحافظ على ذلك النظام، مثل العائلة والتسلسل الهرمي والأقدمية، وفي احترام الواجبات الكثيرة والمتدرجة التي تربط بعضها ببعض. وكان من شأن هذه التعاليم أن تعطي رجالاً يحترمون الثقافة التقليدية، ويشددون على قيمة الأعراف السليمة والسلوك القويم، ويسعون إلى تحقيق واجباتهم الأخلاقية في الأداء الدقيق لمهامهم.

لقد نجحت هذه التعاليم نجاحاً فورياً من ناحية أن الكثيرين من تلاميذه قد اكتسبوا شهرة ونجاحاً دنيويين مع أن تعاليمه تستنكر السعي المقصود نحو هذه الأهداف، وتحض على إنكار الذات بشهامة، ولكنها نجحت أيضاً من ناحية أعمق وأطول عمراً بكثير، لأن أجيالاً من الموظفين الصينيين سوف تدرب على مبادئ السلوك والحكم التي وضعها.
لقد صارت نصوص كونفوشيوس، وليست كلها أصلية، تعامل بما يشبه الخشوع الديني، واستخدمت لقرون طويلة بصورة موحدة وخلاقة من أجل قولبة أجيال من حكام الصين ضمن مبادئ كان يعتقد أنه قد وافق عليها، ويلفت النظر هنا التشابه مع استخدام الكتاب المقدس المسيحي في زمن لاحق، على الأقل في البلاد البروتستانتية، إلا أن كونفوشيوس لم يقل أشياء كثيرة حول أمور ما فوق الطبيعة، فهو لذلك لم يكن معلماً دينياً بالمعنى المألوف للكلمة، وربما لهذا السبب حقق معلمون آخرون نجاحاً أكبر منه بين الجماهير، بل كان همه الأكبر هو الواجبات العملية. ويبدو أن الفكر الصيني اللاحق أيضاً لم يهتم كثيراً بالأمور النظرية، مثل حقيقة عالم الحواس أو إمكانية الخلاص الفردي، بعكس تقاليد فكرية أخرى أرقتها هذه الأفكار، كما أن الفلاسفة الصينيين لم يهتموا كثيراً بوضع مخطط للمعرفة عبر الاستجواب المنهجي لطبيعة العقل ومدى قدراته، بل صاروا يهتمون بعبر الماضي وحكمة الأزمان الغابرة والحفاظ على النظام السليم، أكثر من تأمل الألغاز الثيولوجية والأحاجي الفلسفية، أو البحث عن الأمان بين ذراعي آلهة غامضة.
ولا تدين التقاليد الفكرية الصينية بعد كونفوشيوس بالكثير لتعاليم الأفراد، بعكس التقاليد الأوروبية التي تقوم على الاستجواب المنهجي.

ومع ذلك فقد ظهرت أنظمة فكرية منافسة للكونفوشيوسية، فهناك المعلم لاوتسه، وهو حكيم ذائع الصيت جداً، مع أننا في الحقيقة لا نكاد نعلم عنه شيئاً، ويقال إنه مؤلف النص الذي يعتبر الوثيقة الأساسية في نظام فلسفي سمي فيما بعد ”بالطاوية”. يدعو هذا النظام إلى الإهمال المقصود لأشياء كثيرة تؤيدها الكونفوشية، مثل احترام النظام السائد واللياقة والتقيد الدقيق بالتقاليد والطقوس، كما تحض الطاوية على الخضوع لمفهوم كان موجوداً في الفكر الصيني أصلاً ومألوفاً لدى كونفوشيوس، هو مفهوم الطاو أو ” الطريق”، وهو المبدأ الكوني الذي يتخلل الكون المتناغم ويدعمه.
ومن الناحية العملية يؤدي هذا التفكير إلى الاستكانة السياسية والزهد واتخاذ البساطة والفقر مثالاً. كما أن ثمة حكيماً آخراً أتى لاحقاً في القرن الرابع هو منشيوس (منغ تزو)، علم الناس أن يسعوا لخير البشرية، فكانت تعاليمه تطويراً لتعاليم كونفوشيوس وليست افتراقاً عنها.
والحقيقة أن جميع مدارس الفلسفة الصينية كان عليها أن تحسب حساب تعالم كونفوشيوس، إذ أنها قد حظيت بمكانة ونفوذ عظيمين. ولا يمكنك أن تقيم التأثير الكامل لتعاليمه، التي لم تبلغ فترة نفوذها الكبرى إلى بعد موته بزمن طويل، إلا أنه قد وضعت المعايير والمثل للنخب الإدارية حتى يومنا هذا. وكانت تركز على اهتمام كبير بالماضي سوف يعطي كتابة التاريخ في الصين نزعة منحازة ومميزة لها، وربما كانت لها تأثيرات ضارة على البحث العلمي، وقد تغلغل الكثير من مبادئها أيضاً مثل توقير الأجداد في الثقافة الشعبية من خلال القصص والمواضيع التقليدية للفن، فزادت بذلك من تمتين حضارة الصين التي كانت ملامحها اللافتة قد ترسخت بحلول القرن الثالث ق.م.

مازال فن الصين أكثر جوانب حضارتها القديمة جاذبية وقرباً، ولم يبق شيء هام من عمارة الشانغ والتشو لأنهم كانوا يبنون بالخشب عادة، كما أن المدافن لا تكشف عن أشياء كثيرة.
ولكن من ناحية أخرى دلت الآثار على قدرة لتشييد الأبنية الكبرى، فقد كان سور إحدى عواصم التشو مصنوعاً من تراب مضروب علوه ثلاثون قدماً أي (تسعة أمتار)، وثخانته أربعون قدماً أي (اثنا عشر متراً)، كما أن الأغراض الصغيرة والكثيرة الباقية تدل على أن هذه الحضارة كانت قادرة على صنع أعمال رائعة منذ أيام الشانغ، وينطبق هذا بالأخص على الخزف، الذي لم يكن يضاهيها فيه أحد في العالم القديم، فضلاً عن أشغال البرونز العظيمة، والتي بدأت تصنع في أوائل عصر الشانغ، ثم استمرت بعد ذلك بلا انقطاع.
كان فن سبك أوعية القرابين والقدور وجرار النبيذ والأسلحة والأوعية الثلاثية الأقدام قد بلغت ذروته منذ عام 1600 ق.م، ويظهر سبك البرونز بصورة مفاجئة وعلى مستوى عال من الإتقان جعل البعض يحاولون تفسيره بانتقال التقنية من الخارج، ولكن ليس هناك دليل على ذلك.
كما أنه ليس هناك دليل على أن أشغال البرونز الصينية قد بلغت العالم الخارجي في الأزمنة الباكرة، إذ لم يكتشف أي عمل في أي مكان آخر يعود لما قبل منتصف الألف الأولى ق.م.
وحتى في الأزمنة الأبكر لم يكتشف خارج الصين أي من الأشياء الأخرى التي أولاها الفنانون الصينيون اهتمامهم الكبير مثل حفر الرسوم الجميلة والدقيقة على الحجر والحجر اليشب.
ويبدو أن الصين لم تصبح لها علاقات هامة بالعالم الخارجي إلا في زمن متقدم من الحقبة التاريخية فيما عدا بعض الأشياء القليلة التي تعلمتها من جيرانها البرابرة. فكان مثلها مثل حضارة الهند، في أنها لم تبد نزعة قوية للتوسع خارج مهدها، على عظمته.


* نوع من الزراعة يمارس في المنطقة الجافة من دون ري، بالحفاظ على طبقة رقيقة من التربة المحروثة أو المهاد تمنع الرطوبة الطبيعية للتربة من التبخر.
[2] النص الأصلي تنقصه كلمة وليس وقد استوى المعنى بعد مراجعة النسخة الأكبر من تاريخ العالم