فكيف إذا جاء القوم [ وهابي ] ـ كما يقولون ـ من خارج العراق يريد نصرة إخوانه أهل السنة وأهل العراق ...؟

هذا وأهل السنة غير قادرين على حمايته ...!

فليس بمستغرب أبدًا أن يقع هذا الغدر بهؤلاء العرب من الحاقدين من الرافضة ... بل هو المنطق المحتم الذي يحكيه لنا التاريخ من قبل مرارًا في حواث لا تعد ولا تحصى، وجاء الواقع ليثبته ...

ولقد أوكلت أمريكا أمر المجاهدين العرب إليهم ... كان الله في عونهم .

وبغير هذا التغير العقدي التاريخي والجغرافي لن يصل أحد من المحللين إلى فهم المعادلة العراقية والوصول إلى السر الخفي في هذه المعادلة، وسيبقى البحث عن النتيجة الصحيحة لمن لم يعتمد هذه القضية العقدية طلسمًا لن يفككه حتى لو تفككت أعضاؤه ...!

ولقد فهمت أمريكا هذا الأمر جيدًا قبل المجئ إلى العراق، وركزت على هذا الثغر جيدًا، وما زالت حتى بعد نزولها أرض العراق تستحلبه ... ابتداءً بالهجوم الأول عن طريق الكويت، وتركًا للهجوم البري عن طريق السنة الأكراد تمامًا، وقفزًا للهجوم على البصرة والناصرية والنجف والعمارة وكربلاء وتركًا للهجوم على أهل الرمادي الذين هم من أهل السنة المجربين في القتال والإباء ... وقد جرب الأمريكان فعلًا حظهم هناك، فما هي إلا ساعة أو دونها حتى قتلوا جميع الأردنيين وأسروا جميع الأمريكان، وهو مجموع الفريق الذي أسقط إنزالًا .

لقد فهمت أمريكا هذه اللعبة جيدًا حين ركزت على الفاصل العقدي من بعيد .. من خارج العراق .. لعلمها أنه أقوى من الرابط الوطني العراقي الذي حاول اعتماده صدام .. فسخرت عملاءها العلاقمة في بلد خليجي صغير أولًا وإخوانهم في لندن وغيرها ثانيًا، وقام الجميع بدور فظيع في تفكيك الوحدة الوطنية العراقية بعدما ضربت مثلًا رائعًا في الوقوف صفًا واحدًا أمام عدوها دفاعًا عن بلده في أول أيام الحرب ... وما بين عشية وضحاها، تحولت العراق إلى مزق وفرق وأشتات وأشلاء وأعداء .... ووصلت أمريكا إلى عمق بغداد ... حين تحول استقبال الأمريكان من استقبال بالرصاص إلى استقبال بالترحيب والوقوف معهم صفًا واحدًا ضد بلدهم ...!

لقد كان صدام يستطيع أن يعالج هذا الشرخ الهائل في جيشه الكبير بما ذكرنا من تطهير الجيش وتزكيته وتصفيته وإكرامه ... على فترات حكمه الأخير ... ولكنه إذا لم يستطع فعل ذلك، فقد كان يستطيع أن يعالج هذا الشرخ الهائل قبل المواجهة بأشهر ...

نعم، إنه كان يستطيع أن يستفيد من أئمة المساجد وشباب المساجد الذين يتمنون لقاء العدو تحت راية إسلامية صرفة ...

فإن الشباب العراقي المتمسك بدينه كان كثيرًا ـ بحمد الله تعالى ـ وكل واحد من هؤلاء الشباب دخل الخدمة العسكرية العراقية الجديدة، فهو لا يحتاج إلى تدريب كثير، والعراق لا يحتاج إلى هذه الملايين المجندة، فالعبرة ليست بالكثرة، ومائة ألف شاب مجاهد بحق يمكن توفيرها من محافظتين أو ثلاث ... وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ لن يغلب اثنا عشر ألف من قلة ] أخرجه أحمد [ 26689] وأبو داود [ 4286] والحديث صحيح

وإن قناعة الشعب بأمر الجهاد إذا ما تصدى المجاهدون للصليبيين، سوف تتغير رأسا على عقب، وسوف يتسابق الناس إلى الدفاع تدينًا، وسيكون الاستشهاد لديهم أُمْنية .

وقد جرب العالم كله كما رأى صدام بنفسه ماذا صنع المجاهدون العرب في ميادين القتال العراقية، والأفغانية من قبلها، علمًا بأن هؤلاء الذين جاءوا العراق ـ فيما أحسب ـ أغلبيتهم لم يعرفوا القتال قبل ذلك، إنما هو الدين وحب الشهادة فحسب ... ثم إن ثلاثمائة وأربعة عشر رجلًا في الأرض نزل لأجلهم ألف وألف حتى بلغوا خمسة آلاف ملك من السماء .. والله تعالى يقول: [ إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين . بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ]

نعم، كان بإمكان صدام أن يستغني عن الشيعة وعن الغوغاء من سنة وشيعة، ويصفي جيشه من كل منافق بهذه الطريقة .. إذ لم يستطع أن يصفيه قبل سنين، وسوف يرى الصليبيون جنودًا لا قبل لهم بها ولكن يبقى صدام هو ذاك الرجل الذي يظن في نفسه اكتمال التصور ودقة الرأي وهو بعيد عن ذلك، وغيره من أمثاله كثير..

وهناك حقيقة مهمة وهي أن الفرصة التاريخية بل الخطأ التاريخي الذي يجب أن يعترف به الإسلاميون هو أن الذي يتحمل خطأ تفويت هذه الفرصة بالدرجة الأولى هم الإسلاميون أنفسهم، الذين يتطلعون دائمًا إلى لقاء الصليبيين واليهود في ساحتهم، فلما أن جاءوا إلى ساحتنا يريدون احتلال بلادنا، وقفنا منهم هذا الموقف الذي أشبه ما يكون بالموقف السلبي ... وهذه بعض النقولات المهمة عن فقهاء الإسلام في هذه المسألة:

قال السرخسي الحنفي رحمه الله [المبسوط 10/ 98 ]: ' إذا كان قوم من المؤمنين مستأمنين في دار الحرب، فأغار على تلك الدار قوم من أهل الحرب، لم يحل لهؤلاء المسلمين أن يقاتلوهم لأن في القتال تعريض النفس، فلا يحل ذلك إلا على وجه إعلاء كلمة الله عزّ وجل وإعزاز الدين، وذلك لا يوجد ههنا؛ لأن أحكام أهل الشرك غالبة فيهم، فلا يستطيع المسلمون أن يحكموا بأحكام أهل الإسلام، فكان قتالهم في الصورة لإعلاء كلمة الشرك وذلك لا يحل إلا أن يخافوا على أنفسهم من أولئك؛ فحينئذ لا بأس بأن يقاتلوهم للدفع عن أنفسهم، لا لإعلاء كلمة الشرك، والأصل فيه حديث جعفر رضي الله عنه، فإنه قاتل بالحبشة العدو الذي كان قصد النجاشي، وإنما فعل ذلك؛ لأنه لما كان مع المسلمين يومئذ آمنًا عند النجاشي فكان يخاف على نفسه وعلى المسلمين من غيره، فعرفنا أنه لا بأس بذلك عند الخوف'.

وقال محمد بن الحسن رحمه الله [شرح السير 4/ 1515]: 'إذا كانوا يخافون أولئك الآخرين على أنفسهم، فلا بأس بأن يقاتلوهم؛ لأنهم يدفعون الآن شر القتل عن أنفسهم، فإنهم يأمنون الذين هم في أيديهم على أنفسهم، ولا يأمنون الآخرين إن وقعوا في أيديهم، فحل لهم أن يقاتلوا دفعًا عن أنفسهم'.

وقال البهوتي الحنبلي رحمه الله [كشاف القناع 3 / 63]: 'تحرم إعانة الكفار على عدو منهم إلا خوفًا من شرهم، لقوله تعالى [لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله]'.

إن الحكم الشرعي الذي قرره هؤلاء العلماء الثلاثة وغيرهم كثير هو:

'الجواز الشرعي للقتال تحت راية الحاكم الكافر بالقيد المذكور، أما إذا كان مسلمًا فلا خلاف في الوجوب، ومع هذا فثمة أمور لابد من بيانها على ما نقلناه عن السرخسي ومحمد بن الحسن والبهوتي، لئلا يخطئ أحدٌ في تطبيقها على الواقع العراقي، تلك الأمور هي:

أولًا: قال السرخسي 'إذا كان قوم من المسلمين مستأمنين في دار حرب'.

والواقع أن العراق بلد إسلامي وهي دار إسلام واهلها ليسوا مستأمنين وإنما هم مسلمون في دار إسلام، وعليه فإنه إذا اختلف الوصف إختلف الحكم .... والحكم يدور مع علته كما هو مقررويصبح الدفاع عنها، دفاعًا عن دار الإسلام والدفاع عن دار الإسلام فرض عين على أهلها ... كما سيمر معنا في المعالم القادمة .

ثانيًا: قوله 'إلا أن يخافوا على أنفسهم من أولئك' وهذا ضابط المستأمنين الذين في دار الحرب، أما إذا كانوا مسلمين في دار إسلام فإن الخوف يتعدى النفس إلى الدين أولًا وإلى بلاد المسلمين ثانيًا، وإلى انتهاك الضرورات الخمس، وقرائن ذلك في أفغانستان وغيرها قائمة.

بل لو كان ثمة عدو تخافه على نفسك وعدو تخافه على دينك، فوجب رد العدو الذي تخافه على دينك، وإن اقتضى ذلك الوقف مع العدو الذي تخافه على نفسك، وذلك لقول الله تعالى 'الفتنة أكبر من القتل' وقوله 'قل إن كان آباؤكم .... إلى قوله وهو الشاهد ... أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره'.

من حق القارئ أن يسأل 'مفكرة الإسلام' فيقول: أهذا وقت إثارة هذه الفتنة ما بين السنة والشيعة ...؟ أليس من الحكمة إغفالها ولو لهذه الفترة ...؟

فنقول: إنا نؤكد أننا لم نتحدث أبدًا عن عموم الشيعة العراقين ... إنما نخص دائمًا فئة قليلة بمصطلح الحاقدين وأغلب هذه الفئة هم ممن يتلقى تعليماتهم من الأعاجم، فوطنيتهم معدومة .

نقول: كل واحد له خبرة في شيعة العالم، يعرف جيدًا أن شيعة العراق هم أقرب ما يكونون من حيث العلاقات والتعاملات وإسقاط الحاجز النفسي ما بينهم وبين سنة العراق ... ولكن هذا واقع فيما بين العامة من الفريقين ... أما حين يتدخل الحاقدون، فإن هذا العامي يتحول إلى شيء آخر ... إلى سهم مسموم !

ثم إننا حين نحكي التاريخ لا ينبغي أن نحكيه على أنه تاريخ فترة بل تاريخ أمة فهذا حق الأجيال القادمة، ولو أننا فرضنا أن صدامًا استوعب هذا الأمر جيدًا ولم يغره زعم الوحدة الوطنية، واتخذ الاحتياطات اللازمة والكافية والكفيلة بالحيلولة دون الوقوع في هذا المهوى القاتل لما حصل للعراق كل هذا الذي حصل ...

نحن لا نشك أن صدامًا كان على علم كاف بسقوط بغداد الأول بابن العلقمي ودوره ... كيف لا وهو المولع بقراءة التاريخ وهو الذي أنشأ كلية خاصة للتاريخ الإسلامي .؟! لكن الواقع الذي رآه كان أكبر من الذي توقعه ... ولك أن تتصور لو أنه تصور هذه الكارثة كما هي الآن ... فلا شك أنه سيكون لصدام ولها شأن آخر ... وسيعلم أن الفتاوى التي أمر بإصدارها من الحوزات بوجوب وحدة الصف لم تكن كافية ..!

وأن العهد والإيمان التي اتخذته العشائر الشيعية لم يكن كافيًا !

وأن الاجتماع الشيعي والتعاهد على خرقة العباس وهي أعلى موثق عند القوم لم يكن كافيًا ..!

وأن مبايعة أهل العشائر في التلفزيون العراقي أمام العالمين لم يكن حاجزًا دون الرجوع عن كل ذلك إذا ما صدرت فتوى تنسف كل هذه الأيمان المغلظة والعهود الموثقة .... وقد كان ذلك، وانقلب القوم رأسًا على عقب ....!

وأخيرًا فإن رواية التاريخ كما هو في واقع الأمر واجب علينا من جهة، وحجة علينا وعلى الأمة من جهة أخرى إذا لم تقم بدورها في الحيلولة دون تكرار الكارثة بعد ذلك مرارًا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ' لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ' كما أن هذا هو من واجب النصح لكل مسلم .

بل إن التاريخ يقول يجب أن تكونوا أشد ريبة وخشية منهم إذا رأيتم علماء الرافضة يطالبون السنة بإسقاط الفروق العقدية وتناسي المذاهب، والإنضواء تحت راية الإسلام الموحدة ومظلته العامة ... كما هو حاصل الآن ... ذلك أنهم إنما يريدون أن يجعلوا من السنة العراقيين مطية لبلوغ هدف حكمهم لأهل السنة في العراق ...

ذلك أن الرافضة على علم بأمور ثلاثة ...

أما الأول: فسلامة قلوب أهل السنة العراقيين وقابليتهم للانخداع مرة ومـرات ولهم في ذلك تجـارب ...

والثاني: أنه ليس للسنة في العراق حوزة ولا مرجعية علمية يرجعون إليها ... فضلًا عن أن يكون لهذه المرجعية هدف حكم البلاد ..!

ثالثًا: ليس لأهل السنة في العراق سند سني خارجي، فضلا عن أن يكون لهم دولة شرعية سنية تعتبر قضيتهم قضيتها، أما الرافضة فعلى العكس من كل ذلك بالإضافة أن دولتهم العقدية مجاورة ....؟!

أوليس السكوت هنا جريمة في حق أهل السنة، وأهل السنة ليس في العراق اليوم وإنما في حق أهل السنة على مدى تاريخهم الطويل وعلى مستوى الأمة، بل هو خيانة الأمانة التاريخية للأجيال القادمة، وإعانة على تمرير هذا المخطط الرهيب تحت ستار العفو من جهة واحدة فهم في الوقت الذي يخرجون في المناطق التي فيها الغلبة للسنة بمظاهرات تقول: [لا سنة ولا شيعة ...] ويلقون خطابات التسامح، يقوم إخوانهم في مناطقهم بشعارات واضحة ولافتات كبيرة تقول [حوزتنا تحكمنا] ... ولافتات تقول [ لا ديمقراطية ولا بعثية ... بل جمهورية إسلامية] ...

وإنهم في كل تصرف من تصرفاتهم اليوم، ويقطعون خطوة نحو هدفهم النهائي، ففي الوقت الذي تجد فيه كل شيعي ينوح بأعلى صوته على قتلاه الذين قتلهم صدام حسين، ربما منذ فترة طويلة، وكأنهم أحياء في السجون، وربما لم يقتلهم أساسًا تجد كل شيعي يسود صورة صدام حسين بأبشع ما يستطيع من التشويه، في هذه الوقت تجد الكثير من أهل السنة يرددون هذه المقولات من غير تبين وعلى حسن نية، أما الرافضة فيريدون الوصول منه إلى هدفهم الحقيقي وهو ... أن حكم السنة للعراق هو حكم ظالم بدليل ما فعله صدام حسين السني فينا ... فلا نريد حكما سنيًا بعد اليوم وعليه فإن البديل الصحيح هو أن يحكم العراق الرافضة ... وخصوصًا وأنهم الأكثرية كما يزعمون ....

ولقد جاء إحراقهم لسجلات الدولة كخطوة إستراتيجية رهيبة في هذا السياق ...

فلقد ذهبت بهذا الخطوة حقيقة التركيبة السكانية للعراق، وذهبت أسماء من طردهم صدام من قبل من العراق ممن لهم أصول فارسية وولاءاتهم فارسية ...

وبهذا الإحراق أصبحت التركيبة السكانية الآن مفتوحة، وسوف يشهد العراقيون السنة هجرة رهيبة من المناطق الشيعية الإيرانية العربية إلى المناطق العراقية العربية ... وسيكون للسجلات الجديدة مصداقية أكبر، وللشيعة لأول مرة نسبة أكبر.

هكذا يغير التاريخ على الأرض، ويفرض على التاريخ الحق تاريخًا مصطنعًا، لكنه واقعًا، رضى من رضى، وأبى من أبى ... ومن يستطيع أن يفرز هؤلاء عن هؤلاء

فإذا لم تكن ثمة سجلات ولا تواريخ ... اللهم إلا شهادة العشائر، فكيف إذا كانت عشائر هؤلاء هي المتواطئة لهؤلاء، 'وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال '.

وللحقيقة التاريخية فإنه لا يمكن إنكار ما فعله صدام حسين بهم، ولكن الواقع خير شاهد على أن ما اتخذه صدام حسين في الجملة كان هو الأسلوب الأنسب لضبط البلاد بالطريقة الموافقة لمنهج صدام حسين من جهة والمناسبة لمواقف الحاقدين منهم من جهة أخرى، فما كاد شبح صدام حسين يختفي عن السلطة العراقية حتى صنع الشيعة ما صنعوا في العراق وخصوصًا في مناطق السنة المجاورة إلى مناطقهم ... فماذا ترى لو أن قبضة صدام ارتخت يومًا من الأيام ...؟!