وأصرح من ذلك في دلالة (الطرف الثاني) على (العشي) المأمور فيه بالتسبيح، قوله تعالى في ذات الأمر، وفي إطلاقه على نفس الوقت :

( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) (طه/130)

وقوله في سياق مماثل:

(وقبل الغروب) ( ق/39)

إذ ليس قبل الغروب- لتأدية ما صدر الأمر به في العشي من تسبيح- خلا العصر، وعليه فإنه لا يجوز أن يكون المراد من (العشي) صلاة المغرب، على ما هو المختار لدى الطبري وغيره والمروي عن ابن عباس، لأن ما ذكروه يعكر صفوه الأدلة التي سقناها، وكونها داخلة تحت قوله تعالى:

(وزلفاً من الليل)(1)

اللهم إلا على سبيل الحمل على المجاز فإنه يسوغ حينذاك، لأن ما يقرب من الشيئ يجوز أن يطلق عليه اسمه(2)
ولعل الذي حدا بمن ذهب إلى هذا لأن يقول به، ويجعله أحد قولين مشهورين في معنى التسبيح بالغدو والآصال كما سيأتي بيانه، تعذر العمل بظاهر هذه الآية لإجماع الأمة على أن إقامة الصلاة في ذلك الوقت غير مشروعة، فتعين من ثم تفسير الطرف الثاني بصلاة المغرب ، وجوابه أن هذا التعين محمول على المجاز، وذلك لا يمنع من أن يكون مراده على الحقيقة هو العصر.
وعليه فإن كان النهار في أول الفجر إلى غروب الشمس فالمغرب (طرف) مجازا ، وهو حقيقةً طرف الليل، وإن كان من طلوع الشمس إلى غروبها فالصبح كالمغرب طرف مجازي(3)
والحقيقة فيه هو ركعتا الضحى، يعضد هذا قوله سبحانه في حق داود عليه السلام :

(إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق) ( ص /18)

وكذا ما ورد من الآثار ومن أدلة السنة المطهرة مما يفيد أن الإشراق مراد به صلاة الضحى.

(1) مفاتيح الغيب 8/631 بتصرف.
(2) السابق.
(3) الآوسي 12/234 مجلد 7وينظرالوجوه والنظائر للدامغاني 2/49.



والأصيل هو في معنى ما ذكر، يقول الزمحشري:
الآصال جمع أُصُل وهي العشي(1)، وإن كان من فرق بينهما فيكمن في أنه يتوسع في العشي بما لا يتوسع في الأصيل، وفي اللسان:

الأصيل: العشي

والأصيل: الوقت بعد العصر إلى المغرب(2) والجمع أُصُلٌ وأُصلان ، قال الزجاج :
آصال جمع أُصُل فهو على هذا جمع الجمع(3)، وإنما سمي كذلك لالتصاقه واتصاله بما هو الأصل لليوم التالي وأوله وقالوا في تصغير الأصيل أصيلانُ وأصيلال على البدل، أبدلوا من النون لاماً، ومنه قول النابغة:

وقفتُ فيها أصيلالاً أسائلها عيَّت جواباَ وما بالربع من أحد(4)

(1) الكشاف 3/68.
(2) لسان العرب 1/89.

(3) وحاصل ما ذكره وغيره في (آصال) أنها جمع أُصُل، وأُصُل جمع أصيل فهي بذلك جمع الجمع، أو هي جمع أصيل كيمين وأيمان، أو هي جمع أُصُل مفردا كعنق وأعناق وهذه تجمع أيضا على أُصلان.

(4) لسان العرب 1/89 وينظر الكشاف 3/68ومفاتيح الغيب 11/594 ونظم الدرر3/179 والتحرير 9/242 مجلد 5 ومفردات الراغب ص19 والوابل الصيب ص192 والآلوسي 9 /224مجلد 6، 18/258 مجلد 10.


ومحصلة ما ذكر أن وقت (العشي) و(الأصيل) هو ما بعد صلاة العصر إلى ما قبيل غروب الشمس وتلك هي حقيقتهما على ما تقضي به لغة العرب و تفيده سياقات الآيات الوارد فيها ذان اللفظان ، وإذا ما أُطلقا - سيما الأخير منهما - على ما بعيد غروب الشمس وهو ما يوافق صلاة المغرب، فإنه يكون على سبيل المجاز المرسل لعلاقة المجاورة، وقد يكنى بهما عن استغراق الشطر الثاني للنهار إذا اقتضاه المقام وأومأ إليه السياق(1).


(1) وأغرب من قال بأن معنى (العشي) هو ما كان وقتا لصلاة الظهر قاله مجاهد ومحمد بن كعب القرظي وابن عطية، لـ"أن في جعل الظهر من الطرف الثاني خفاء، وإنما الظهر نصف النهار، والنصف - على حد قول صاحب روح المعاني- لايسمى طرفا إلا بمجاز بعيد [تفسير الآلوسي 12/234من المجلد 7]

وأُضيف بأن لو كان هذا صحيحا لما كان هناك معنى للعطف في قوله تعالى:

(وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون ) ( الروم/18)

إذ يصير من عطف الشيىء على نفسه، وهو مما لا يسوغ القول به، و أغرب منه للسبب ذاته ما ذكرناه من حده من الزوال إلى الصباح- كذا فعل الراغب في المفردات (ص 335) دون أن يذكر غيره، وابن عاشور في التحرير
- 7/247من المجلد 4- الذي ناقض نفسه فذكر في قوله تعالى:

(يسبحن بالعشي والإشراق)

وقوله:

(إذ عرض عليه بالعشي) (ص/31)

أنه ما بعد العصر إلى الغروب [ينظر التحرير 23/228 مجلد 11،
23/254 مجلد 11].




يتبــع