لا بد من تربية النفوس بالبلاء، ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد
وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات
لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة
كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف.
والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى
فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي الذي تعز به
العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين.
وكلما تألموا في سبيلها، وكلما بذلوا من أجلها كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها.
كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائهاإنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم: لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيراً
مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء، ولا صبروا عليه
وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها، مقدرين لها
مندفعين إليها
وعندئذ يجيء نصر الله والفتح ويدخل الناس في دين الله أفواجاً
ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى.
فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة
وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد.
والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم
إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون، والران عن القلوب.
في سورة النور قال الله تعالى
(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٢٤﴾)
بعد أن ذكر في السورة حديث الإفك
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ
مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴿١٥)
فقدّم شهادة الألسن على شهادة الأيدي والأرجل
لأن حديث الإفك تناقلته الألسنة وأشاعته بين الناس
فناسب أن تشهد هذه الألسن يوم القيامة على أصحابها بما لاكته افتراءً
في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها
المبرّأة من الله سبحانه وتعالى في قرآن يُتلى إلى يوم الدين.
وفي سورة يس قال الله تعالى
(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿٦٥﴾
فختم الله تعالى على الأفواه فلا تتكلم يومئذ ولا تشهد
وإنما الذي يشهد عليهم ويتكلم هي أيديهم وأرجلهم.
وذكر كلام الأيدي لأن في سورة يس ذكر الله تعالى قصة أصحاب القرية
التي أرسل الله تعالى رسولين فكذبوهما وعززهما بثالث فكان رد أصحاب القرية وعداوتهم للرسالة وللمرسلين
(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿١٨﴾
والرجم عمل الأيدي لذلك ستتكلم أيديهم يوم القيامة بما اقترفته
في حق رسل الله تعالى لهم وكذلك ما اقترفته أيديهم
بحق الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة ينصر رسل الله تعالى
وينصح قومه باتباعهم فما كان منهم إلا أن قتلوه والقتل من عمل الأيدي فناسب أن تتكلم الأيدي في آية سورة يس ويُختم على الأفواه فلا تتكلم ولا تشهد ولا تدافع.
وشهادة الأرجل (وتشهد أرجلهم) تناسب سياق السورة أيضًا
لأن أصحاب القرية لا بد وأنهم سعوا بين أهل القرية حتى يمنعوهم
عن الإيمان بالرسل واتّباعهم فستشهد عليهم أرجلهم بكل خطوة
خطوها بين الناس لتحريضهم على رفض دعوة المرسلين.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم.
------------------
اللهم صُن ألسنتنا عن قول الزور وشهادة الزور والكذب والافتراء واللغو
وصُن أيتدينا من الحرام ومن القتل والعدوان والأذى وصُن
أرجلنا عن السير في معصية أو إلى معصية
اللهم اجعلنا ممن تشهد لهم جوارحهم يوم القيامة
واستر ما اقترفناه على أنفسنا مما علمتَ ولا تخزنا يوم العرض
ولا تهتك لنا سترا في الدنيا ولا في الآخرة
مواقع النشر (المفضلة)